الأزمة الأوكرانية وبال على الغرب وعملائه
حرب أخرى تنشب في عمق أوروبا، وتتحرك معها مشاعر الألم والمعاناة، ويتصاعد القلق من تصاعدها والخشية من تحولها الى حرب نووية. ومع اختلاف الظروف والأسباب، تستحضر شعوب منطقتنا ما حدث قبل ثلث قرن عندما بعث طاغية ا لعراق آنذاك قواته لاجتياح الكويت وسلب أمن أهلها وفتح الباب أمام الولايات المتحدة الامريكية للتدخل الذي لم ينته حتى اليوم. ان الحرب تأكيد لفشل الحكام وليس قوتهم، وعنوان للطمع تارة، والغرور أخرى، وعقلية الاستحواذ والفساد ثالثة. ولا يلجأ للحرب إلا من سلخ من نفسه مشاعر الإنسانية والرحمة واستبدلها بالقسوة والعنف. فهو يعلم ان أول ضحاياها من لا حول لهم ولا قوة من النساء والأطفال، وان طبقة الحكام لن تدفع فواتيرها. ولقد نشبت الحروب منذ ان وجد الإنسان على ظهر هذه الأرض، ومع ذلك لم تكن يوما خيار العقلاء وأصحاب المباديء السامية. وقد خاض البشر غمار الحروب وكانوا مجبرين في أغلب الأحيان، وسقط الملايين ضحايا النزاعات المسلحة، ودفعت أوروبا من حربيها الكبريين اكثر من اربعين مليونا من أهلها، ودمرت مدنها تدميرا، وفي كل مرة وجدت نفسها مضطرة لبدء الإعمار والبناء. فالحكام هم الذين يختلفون مع نظرائهم، بينما يحمّلون شعوبهم نتائجها السيئة. فما أبعد الإنسان عن طريق الله الذي يملأه الحب والعطف والرحمة واحترام الحياة وتكريم النفس البشرية.
هذه المرة حدثت الحرب أمام مرأى العالم ومسمعه، وكان بالإمكان منع حدوثها لو كان للعقل دور في السجالات السياسية، ولو كان الحكام حكماء كذلك. فالتهديدات الروسية بالحرب على أوكرانيا لم تكن سرية، بل معلنة قبل شهور من اندلاعها، وأسبابها كانت واضحة لدى الجميع، بمن فيهم حكام اوكرانيا وداعميهم الاوروبيين والأمريكيين. فلماذا فشلت الدبلوماسية في احتواء الآزمة؟ ولماذا لم يكن للأمم المتحدة دور في ذلك؟ الأمر المؤكد ان التردد كان سيد الموقف، وان حكام الغرب لم يتحركوا بجدية لمنع نشوبها. وفجأة تحول الموقف الى حالة استقطاب لا تخدم أحدا. فالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين ليس ملاكا ولا يؤسس مواقفه وفق مباديء وقيم أخلاقية او إنسانية. وكذلك الأمر مع بقية الحكام الذين لا مكان للقيم والمعايير والمباديء السامية مكان في قاموسهم. وتكشف حروب الزمن المعاصر ان من يقسو على جيرانه يقسو ايضا على شعبه، ومن يدمر الغير لا يتردد عن تدمير الذات كذلك. فحاكم العراق الذي اجتاح الكويت استخدم القوة المفرطة لضرب شعبه قبل الحرب وبعدها. ولا يمكن اعتبار حكام الغرب أنظف قلبا او شعورا. فما استخدموه من حمم ضد أهل العراق كان هائلا، وما تزال الذاكرة تختزن مشاهد القذائف التي كانت المدمرة الامريكية نيو جيرسي، تضرب بها الاراضي اللبنانية في منصف الثمانينات ماثلة، وكانت الواحدة منها تزن طنا. وحين استهدف الطراد الأمريكي، فينسنت في مايو 1988 طائرة الأيرباص الإيرانية لم يتردد قبطانها في ذلك. وقد روى الطيار الذي ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما قصة جريمته بدون ان يبدو عليه الندم.
فهل يجدي التباكي على ما يحل بأهل أوكرانيا الذين وجدوا انفسهم بين ليلة وضحاها تحت رحمة القنابل والصواريخ؟ هل كان أطفالهم الذين أصبحوا في غضون أسبوع واحد فحسب مشردين من منازلهم، يقطعون المسافات مشيا على الأقدام في ذلك الصقيع القاتل، يعلمون انهم سيواجهون ذلك المصير المرعب؟ فمن يتحمل فاتورة هذا التداعي القيمي والأخلاقي؟ من المؤكد ان روسيا تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية، فجيشها هو الذي يلقي الحمم بدون انقطاع على رؤوس الآدميين فتحصد الأخضر واليابس، وتقضي على الحياة. ولكن الغرب يتحمل قسطا غير قليل من المسؤولية، فسياساته التوسعية أخلت كثيرا بالتوازن السياسي والعسكري ليس في أوروبا فحسب، بل في العالم كله، إن تخلي حكوماتها عن مباديء الديمقراطية وحقوق الإنسان ودعمها الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وأنظمة الاستبداد في العالمين العربي والإسلامي جعل الغرب شريكا في ما تعانيه الشعوب من ظلامات لا تتوقف. ولقد أصبح واضحا ان هذا الغرب تخلى عمليا عن الأوكرانيين وسعى لاستغلال الوضع للتشويش على الواقع، وربما استدرج بسياساته ومواقفه وتصريحات حكوماته النظام الروسي للإقدام على خطوته ا لكارثية التي تهدد بالتوسع حتى تصبح حربا عالمية ثالثة. كما ان تلويح موسكو بالسلاح النووي يضاعف قلق العالم خصوصا ان ذاكرته تختزن ما حدث قبل ثلاثة ارباع القرن في هيروشيما وناجاساكي.
وماذا عن دول مجلس التعاون الخليجي؟ ربما كان الكثيرون يتوقعون ان تبادر حكوماتها لدعم الموقف الغربي بشكل كامل، ولكنها لم تفعل ذلك، بل حاولت التظاهر بموقف أقل تشددا تجاه روسيا، ولكن الامريكيين يعلمون ان مشايخ الخليج لا يستطيعون الخروج على إرادتهم وهم الذين يحتفظون بقواعد عسكرية على أراضي هذه البلدان. وانهم لا يهتمون كثيرا بالتصريحات الإعلامية العلنية طالما بقيت القرارات الاستراتيجية مضمونة. فاحتياجاتهم من النفط والغاز ستلبيها دول الخليج خصوصا السعودية والامارات والكويت، وكذلك احتياجاتهم المالية واللوجستية. لذلك لا يمانع الغربيون في منح هؤلاء الحكام مجالا للمناورة الاعلامية المحدودة، بل يرون في ذلك تقوية لتلك الانظمة باظهارها ذات قرار وسيادة، ويخففون اللوم الموجه للغرب بدعم الانظمة الاوتوقراطية التي تحمي حكمها القبلي والفردي بقمع المعارضين واضطهادهم. هذه الانظمة الغربية لا تريد انظمة عربية قوية، ينتخبها مواطنوها عبر صناديق الاقتراع، لان ذلك سيؤدي لقيام حكومات مستقلة تعتمد في وجودها على قواها الذاتية المستمدة من شعوبها.
وهكذا تتحول أزمة أوكرانيا لساحة للاستغلال السياسي والأيديولوجي، وتساهم وسائل الإعلام بشكل مباشر في دعم المشروع الغربي الهادف للاستحواذ على القرار الدولي والهيمنة المطلقة على العالم. فبعد اكثر من ثلاثين عاما من تفكك الاتحاد السوفياتي استيقظت روسيا على واقع مرير اصبحت فيه ليس مجردة من النفوذ الدولي فحسب، بل حتى من الأمن القومي الذي أصبح محاصرا بقوات الناتو بشكل شبه كامل. ومن المؤسف ان تلقى المسؤولية السياسية والانسانية بشكل كامل على الشعب الأوكراني الذي تم تضليله بشكل منهجي وإقناعه بانه أمام خطر محدق ان لم يلتحق بحلف الناتو. وبرغم إصرار روسيا على حصول ضمانات أمنية من أمريكا وحلفائها فقد تم تجاهل طلبه، واستدرج الى مستنقع آخر قد لا يستطيع الخروج منه. وكان عليه ان يستحضر تجربته الفاشلة في أفغانستان ليدرك ان دخول مستنقع الحروب أمر سهل، ولكن الخروج منه مكلف جدا. هذا لا يعني ان ا لغرب قد نجح تماما في مشروعه باستدراج روسيا الى ذلك المستنقع، فما أكثر المتاعب السياسية التي سيواجهها اذا استمرت الحرب او توسعت، فإقتصاداته مهددة نتيجة تخلخل أسواق الطاقة التي تحتاجها آلته الانتاجية، ولا يكفي لإصلاح الخلل استخدام الاحتياطي الاستراتيجي من النفط والغاز لسد النقص. كما ان تداعيات الحرب على الصعيدين الإقليمي والعالمي لن تكون محدودة او خاضعة للسياسات الغربية. فهناك مشاعر مختزنة لدى شعوب ما كان يسمى “العالم الثالث” ضد التنمر الأمريكي والعجز الاوروبي السياسي والأخلاقي، خصوصا مع تصاعد ظواهر العنصرية والاسلاموفوبيا والعداء للسامية والانتائية وازدواجية المعايير. وليس مستبعدا ان تتحول الأزمة الأوكرانية إلى طاحونة مدمرة ليس للروس فحسب، بل للغرب الذي تقوده أمريكا أيضا. هذه المرة ستكون دماء الأوكرانيين وقودا لنار غضب تتجاوز الحدود وتهدد الجميع، بما في ذلك الغرب الذي فشل في احتواء أزمة شبيهة بما عاناه قبيل الحرب العالمية الثانية. أيتها الشعوب لا تيأسي، ويا شعب البحرين، اصمد في موقعك ورسّخ إيمانك بالله ولا تخش مكر أعدائه، فانه ناصر المظلومين وقاسم الجبارين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الإسلامية
4 فبراير 2022