مع الشهداء في ذكراهم: عبق من الجنة ونفحة من الخلود
أكد لنا شهداؤنا الأبرار صدق الآية الكريمة: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فها هم يتحركون بيننا حقا، وها هو فكرهم يصنع الحياة في شعبنا الذي يأبى أن ينساهم لحظة، وها هم الطغاة يسعون لاحتواء ذلك ومنعه من التحول الى طوفان يقتلع نظامهم الخائر، ويعجّل بانتهاء عهدهم الأسود. ها نحن بعد اكثر من أربعين عاما نتذكر أول شهداء الحركة الإسلامية، فالجميع يستحضر اسم جميل العلي الذي قتله الخليفيون في مايو 1980 بعد اعتقاله بأقل من عشرة أيام. لقد ولد أكثر من جيل منذ ذلك الوقت، ولكن ذكراه يأبى الاضمحلال او التلاشي. وعلى نهجه سار من لحقه من شهداء الثمانينات: كريم الحبشي والشيخ جمال العصفور ومحمد حسن مدن ورضي مهدي إبراهيم الدكتور إسماعيل العلوي. كانت تلك الكوكبة من الشهداء فاتحي المرحلة التي تواصلت أربعة عقود متواصلة تخللها الكثير من المآسي والمزيد من الإجرام الخليفي. لقد بلغ هذا الإجرام ذروته حتى قطع كافة الأواصر التي تربط الخليفيين بالبحرانيين، فلم يعد هناك من يقبل بحكم العصابة التي ارتكبت من الجرائم ما لا يحصى. ومن هذه الجرائم تصاعد جرائم الاعتقال التعسفي الذي بلغ الآلاف في انتفاضة التسعينات المباركة، وبعد اندلاع ثورة 14 فبراير 2011، وتبعها جرائم التعذيب الممنهج الذي لم يتوقف حتى هذه اللحظة، والإعدامات التي كان آخرها في العام 2019. فأي قلب يستطيع نسيان ما ارتكبه الخليفيون؟ وهل هناك من يعتقد بإمكان إصلاح حكمهم ووقف جرائمهم؟ لقد تأكد لنا جميعا استحالة إصلاح حالهم، وأكد القرآن الكريم ذلك “إن الله لا يصلح عمل المفسدين”. و الهانيين
وتتجدد ذكرى شهداء البحرين في كل عام، باستحضار مآثرهم ومواقفهم وصمودهم وإنسانيتهم. وفي كل مرة يتجدد كذلك استحضار بشاعة الحكم الخليفي المتوحش الذي ما برح ينهش أجساد البحرانيين. وهل هناك أدلة على ذلك أقوى من أجساد الشهداء الذين أزهق الطاغية وعصابته أرواحهم بعد تقطيع أجسادهم بأدوات التعذيب الإجرامية؟ هل هناك دليل أوضح مما شاهده العالم من توحش غير مسبوق كان واضحا على جسد الشهيد كريم فخراوي وعلي صقر وعلي جاسم مكي وزكريا العشيري وعبد الرسول الحجيري؟ هل هناك بشاعة وتوحش أشد من إقدام الطاغية الحالي على توقيع قرار إعدام الشهداء سامي مشيمع وعلي السنكيس وبعدهم علي العرب وأحمد الملالي؟ ما أبشع الخليفيين ابتداء من طاغيتهم الذي هزمه البحرانيون بصمودهم، وتحدّته أشلاءهم التي مزقها حقدا وتوحشا، فكان كل شلو منهم يهتف بسقوطه ويدعو الله لإنهاء هذه الحقبة السوداء من تاريخ البلاد. هذا ليس جديدا، فلم يمر عقد منذ منتصف القرن الماضي بدون سقوط شهداء من البحرانيين الأصليين (شيعة وسنة)، فما أكثر القبور، وما أعظمها كمصدر للإلهام والتثبيت والإصرار على التغيير! وما أكثر الأمهات اللاتي حطّم الخليفيون حياتهن بإزهاق أرواح فلذات أكبادهن. وهل هناك معاناة او حزن او أسى أو ألم أشد من فقد الولد؟
من هنا يتوقف الشعب، رجالا ونساء في عيد الشهداء ليستعيدوون آلامهم، فبدون تحسس الألم لا يبادر المريض للتداوي، وبدوون استحضار جرائم الطاغية وعصابته تضيع حقوق البشر وتستمر آلة حصد الأرواح. بالأمس تحرر ما يقرب من أربعين بطلا من الأسر الخليفي المقيت، بعد ان انهى أغلبهم أحكام السجن التي فرضها الخليفيون عليهم. ولكل من هؤلاء ملحمته المكتظية بالآلالم والآهات. فكل منهم موسوعة تعذيب تنطق بالظلامة، ولا يقلل منها تحرر الفرد من قيود الارتهان. ةتكفي إفادة كل منهم لتجريم البيت الخليفي المجرم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، خصوصا مع بقاء جلاديهم خارج إطار القانون والمقاضاة. فقد فرض الخليفيون سياسة الإفلات من العقاب لحماية عبيدهم الذين ينفذون أوامرهم لتقطيع أوصال البحرانيين. لكل من هؤلاء موسوعة تنطق بالألم والظلامة، تبدأ سطورها من اللحظات الأولى للاعتقال وتتواصل بطوامير التعذيب خصوصا في الطابق السفلي من مبنى جهاز الامن الخليفي الذي لا يوظف إلا من يتلذذ بنهش لحوم البشر. هؤلاء انسلخوا من إنسانيتهم، فأصبحوا يتلذذون بسماع آهات الشباب والأطفال وهم معلقون كالذبائح يتلقون ضربات الاسواط التي تتلوى على ظهورهم وبطونهم بدون إنسانية او شفقة. وما أكثر الذين فقدوا حياتهم تحت مباضع الجلادين، وما أكثر عدد الذين فقدوا عيونهم بالتعذيب او الرصاص المطاطي والذخير الحية التي أطلقها وحوش الخليفيين. هؤلاء جميعا اشتركوا في محاولة ذبح الشعب كله، ولكن الله نجّاه من كبدهم وأبقاه ليخوض معارك مصيرية قادمة ليحرر أرضه من دنس الطاغية خصوصا بعد ان استقدم الصهاينة لمساعدته لكسر شوكة البحرانيين.
عشية عيد الشهداء العظيم، يجدد أبطال الميادين عهدهم للذين فقدوا حياتهم في المسالخ الخليفية الحاقدة، فقط ليقوم خالد راشد الخليفة بتكريم ابيه، وزير الداخلية تقديرا لجهوده في القمع والتعذيب. لقد اثبت الإثنان انسلاخهم من الإنسانية وانتميا الى عالم الغابة وقوانينها. كان فعلا قبيحا خصوصا لتزامنه مع تحرر عدد من الأسرى واتضاح وحشية التعذيب الذي تعرض له كل منهم. من هنا فإن من الضرورة بمكان تشجيع المحرّرين من سجون العدو على البدء بتوثيق معاناتهم بشكل مفصل قبل ان تنمحي بعض تفصيلاتها من الذاكرة. صحيح انهم خرجوا من طوامير التعذيب ولكن توثيقهم تلك المعاناة سوف تفيد في ما سيتخذه الحقوقيون من إجراءات لضمان مقاضاة المعذبين خصوصا الرموز الخليفية الكبيرة التي أقرّت التعذيب كوسيلة لقمع البحرانيين منذ عقود ولم تتوقف يوما عن ممارسته. فللأجيال القادمة حق علينا، وذلك بالعمل قدر المستطاع لإنهاء معاناة الوطن والشعب ووقف سوء المعاملة القبيحة التي أدت في مئات الحالات لفقد الضحايا أرواحهم وصعودهم إلى ربهم شهداء صابرين محتسبين. فما دام الخليفيون حكاما فلن تنتهي قوافل الشهداء وضحايا التعذيب والتنكيل والاضطهاد وسحب الجنسية والإبعاد عن الوطن.
وشاءت الإرادة الإلهية ان يتزامن رحيل العلامة المجاهد الشيخ عبد الأمير الجمري مع عيد الشهداء، فقد رحل عن الدنيا بعد حياة حافلة بالعطاء والسجن والتنكيل، ليلقى ربه راضيا مرضيا، بعد ان أدى واجبه ووقف مع شعبه في أحلك الظروف. لقد كان شاهدا وشهيدا على نضال شعب سامه حكامه سوء العذاب، فصمد وأبلى بلاء حسنا، حتى اختاره الله إلى جواره. لقد كان الشيخ الجمري مدرسة في العطاء الفكري والديني والسياسي وترك وراءه سفرا حافلا بالنضال والعمل المشترك ووضوح الرؤية والموقف. كان حاضرا في العمل السياسي الرسمي منذ العام 1873 عندما فاز بعضوية المجلس الوطني، وتعرض للتنكيل في الثمانينات، وعمل في إطار العريضة الشعبية في بداية التسعينات، ثم ضمن لجنة المبادرة في النصف الثاني من التسعينات. وبعد الانقلاب الخليفي على الدستور في 14 فبراير 2002 قال كلمته المشهورة حول دستورهم المشؤوم: ليس هذا الدستور الذي ناضلنا من أجله. وهكذا تتضح بصيرة الشيخ الجمري وعمق بصيرته، فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وطوبى له في العليين.
في هذه الحقبة ندعو الله ان يجزي الشيخ عبد الأمير الجمري عن الشعب خير الجزاء، وأن يرحم الشهداء الأبرار الذين ضحوا بأغلى ما يملكون من أجل الوطن والحرية والحق والإسلام. ولنقف جميعا في عيدهم الميمون، لنسجل لهم أكبر التقدير والاحترام، ولندعو الله سبحانه ان يمتعهم بمقامهم العلوي في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
16 ديسمبر 2022