عام جديد بآمال عريضة وإيمان بحتمية النصر الإلهي
ويطل عام جديد، ومعه خليط من الآلام والآمال. أنات ضحايا القمع الخليفي يَلِجون السّنة الجديدة بآهاتهم وعاهاتهم، وتختلج في نفوسهم الآمال العريضة بأن أشلاءهم الممزقة لن تذهب سدى. وهواجس الأمهات الثاكلات تستقبل العام الجديد شاكية إلى الله ظلم هؤلاء القوم الذين أمعنوا في الظلم والجريمة، وتلذذوا بسماع الأنات والآهات، وظنوا أنهم بلغوا ما كانوا يتطلعون اليه من استقرار حكمهم وما يعتقدونه خطأً من انهيار عدوهم. ما يزال هؤلاء أسرى لسوء ظنهم وقبح أعمالهم وسواد سريرتهم. أما ضحاياهم فأنهم ينظرون بعين الله ويرون في تداول الأيام سنة طبيعية وأنها ستدور على الباغي الذي ارتدى ثوب الربوبية وارتقى مقعدا لا يليق به. وبين هذين الصنفين من البشر في بلادنا المبتلاة، تبقى الإرادة الإلهية هي الحاسمة، وهي التي تقرر ما تريد: “ألا له الخلق والأمر”. فمن يستطيع ان يرد الأمر الإلهي؟ إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر. لقد عاشت الأمم السابقة ظروفا مشابهة، وخطى اللاحقون على خطاهم، فما أغنت عنهم ألهتهم شيئا لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب. في خضم هذه الفسيفساء الفكرية والنفسية والعقدية، لا يستطيع أحد ان يستشرف ما ينتظره. لكن المؤمنين الذين ينظرون بعين الله، يرون دائما أن الخير في ما وقع، وأن ما قدموه انما كان من أجل الله الذي أمرهم بإقامة العدل ومحاربة الظلم. وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا.
يودع شعبنا البحراني عامه المنصرم، وما احتواه من مصائب لا يحتملها الكثيرون. فهل هناك مصيبة أكبر من ارتكاب حاكمه أكبر خيانة تاريخية؟ هل هناك جور أعظم من أن يستغل الطاغية البلاد والحكم لتوجيه الامور نحو الاستسلام والاستعباد والتخلي عن المقدسات والتجهم للمظلومين من ضحايا الاحتلال؟ إنها الأيام التي وعدهم الطاغية بها عندما اعتلى سدة الحكم بعد موت أبيه بأنهم لم يعيشوها بعد. أدركوا اليوم معنى ذلك الوعد الإجرامي المقيت. فلم يكونوا يتوقعون ان يسبق طاغيتهم كل حكام العرب والمسلمين ليعلن نفسه حليفا لأقبح نظام احتلال عرفته البشرية في عصرها الحاضر. لم يكن في الأفق ما يشير الى حتمية وقوع ذلك، وإن كان سلوك الطاغية منذ عقود يوحي بانه غير متزن وليس لديه قدرة على الاستواء والتفكير السليم. فلو كان إنسانا سويا لما اختار الظلم والجور والعنف طريقا لتثبيت حكمه وعصابته. لو كان حكيما لبحث عن قوته من دعم شعبه بالتقرب اليه واسترضائه وحماية ابنائه. كان ذلك مسارا متاحا أمامه، لكنه لم يختره، بل احتذى حذو من ظلم نفسه وركب الظلم راحلة ليصل بها الى مبتغاه، وسرعان ما انتفضت به وقضت عليه. ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
هناك وراء القضبان أرواح تتنفس وتتعبد لربها بالطاعة والاستسلام لإرادته وأوامره. فها هي بعد اثني عشر عاما ما تزال ثابتة على العهد الذي قطعته مع ذلك الرب المتعال، وتسعى لأقامة العدل الذي أمرهم الله به: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظم لعلمك تذكّرون. هذه الارواح الطاهرة قضت شطرا طويلا من عمرها متحررة من الاوهام ومتمردة على القيود، فأصبح أصحابها كالملائكة في تقواهم وورعهم وإيمانهم وآمالهم. لم يغب عن ذهنهم قط الشعور بالاستسلام المطلق للإرادة الإلهية والعمل وفق ما يريده خالق السماوات والأرض. ففي كل زنزانة من ذلك السجن الرهيب الذي لفظ فيه عدد من نازليه أنفاسه الأخيرة، نفرٌ من المؤمنين الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، فتمردوا على الطاغية واستصغروا قدره واستخفوا بتهديداته، وكل منهم يقول: فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياةَ الدنيا. اولئك قوم قشع الله عن عيونهم الظلمة فأبصروا الغيب بقلوبهم، وحلّقوا بأرواحهم في الملأ الأعلى، ليعيشوا عند الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ما كان أمامهم سوى الإذعان للأمر الإلهي، فكان ذلك صخرة تكسرت عليها أحلام الطاغية وعصابته المجرمين. فبالغ في الجريمة كالثور الهائج، وراح ينتقم من البلاد وأهلها، تارة بهدم المساجد وأخرى بالتنكيل والتعذيب، وثالثة بالإعدام، ورابعة بالنفي والإبعاد وسحب الجنسية. فما أضعفه وأوهى عوده وشكيمته. ها هو يستقبل العام الجديد بخيال فاشل يؤسس للمزيد من الظلم والعنف. بينما يرى رهائنُه المرتهنون أنهم أدوا واجبهم وأدلوا بشهادتهم أمام التاريخ عن وعي وبصيرة، ورأوا في الموت سعادة لهم، وفي العيش مع الظالمين برما لا يطيقونه. فكان لهم من الثبات والصمود وكبر النفس وسعة الآمال ما حطم معنويات الطغاة وآذنابهم.
كان الأبطال الكبار يتقدمهم أكبرهم سنا، الأستاذ حسن مشيمع، يتدبرون الأمر، ومعه الرجال الأشاوس مثل عبد الوهاب حسين وعبد الجليل السنكيس وعبد الهادي الخواجة والشيخ علي سلمان والمقدادان. فما ازدادت قناعاتهم إلا رسوخا وثباتا ووضوحا. فهم الأحرار وسجّانهم هو العبد الذي أسره هواه، فأصبح لا يرى إلا ما يزيّنه الشيطان لعينيه بعد أن أغلق عقله وأعمى قلبه. هؤلاء ينتظرون ساعة الفرج الآتي من بطن الغيب، من الله المقتدر الجبار الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه حاكم او ديكتاتور او متجبر. لقد رفض هؤلاء كافة أساليب الإخضاع والإذلال والإكراه، وأصروا على مواقفهم التي تكشف عمق إيمانهم ووضوح بصيرتهم. رفضوا الحلول المبتورة لانهم يعرفون معنى القبول بنصف حلّ يتيج للعدو البقاء واستعادة المبادرة بعد حين. رفضوا الإفراج المشروط بالصمت والتخلي عن أداء المسؤولية وفق القانون الإجرامي (الأحكام البديلة) الذي يسعون لترويجه بهدف كسر شوكة الأبطال الأشاوس. ورفضوا مقولة السجون المفتوحة التي سيستخدمها الطاغية وعصابته شهادة لحسن سلوكه بعد سنوات من التعذيب والتنكيل والإجرام، في مقابل حالة الصمت التي سيفرضها على السجناء السياسيين وأهلهم. فما فعله الخليفيون إنما هو كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى. وقف أبطال الشعب وقفات الأسود وردوا على الطاغية ومبعوثيه، وصرعوهم أخلاقيا وإنسانيا وسياسيا. لهذا فهم يُنهون عامًا آخر وراء القضبان ويستقبلون سنة جديدة ولديهم أرواح تضاهي قمم الجبال ونقاء في القلوب لا يقل عن نقاء قلوب الملائكة، وهمم عالية دونها همم الطاغية وعصابته من الذين لعقوا دماء الآدميين وأمعنوا في عباد الله سجنا وتعذيبا وقتلا وإعداما. فمنذ اللحظات الاولى لانطلاق ثورة الرابع عشر من فبراير كان هؤلاء واعين لما ينتظرهم. فقد خبروا السجن والسجانيين سنوات عديدة في الثمانينات والتسعينات، فما زادتهم تهديدات العصابة الخليفية المجرمة إلا إيمانا وتصديقا بالله ووعوده بمنح المؤمنين نصرا مؤزرا على أعداء الشعب والإنسانية.
ويطل عام جديد ويتجدد العهد بين البحرانيين وربهم وشهدائهم على مواصلة الدرب الذي خطته دماء الشهداء ابتداء بجميل العلي وكريم الحبشي ورضي مهدي ابراهيم والشيخ جمال العصفور ومحمد حسن مدن وإسماعيل العلوي، مرورا بشهداء التسعينات وفي مقدمتهم نضال النشابة وحميد قاسم وحسين العشيري وسعيد الإسكافي والشيخ علي النتشاس وفاضل عباس وآخرهم نوح خليل أل نوح، صولا الى شهداء الثورة المظفرة ابتداء بعلي عبد الهادي مشيمع وفاضل المتروك ومحمود أبو تاكي وكريم فخراوي وعلي صقر وزكريا العشيري وعلي الشيخ. قافلة مكتظة من الشهداء الذين كتبوا تاريخ البلاد وشعبها بدمائهم الزاكية وحملوا أرواحهم على أكفهم ورفعوا شعارات الحرية والكرامة والاستقلال، فمن ذا يضاهيهم ومن ذا يستطيع تجاهل ما قدموه؟ هكذا يبدأ العام الجديد بروح تواقة للثورة والتغيير والإصلاح، مؤمنة بقضاء ربها وقدره بعد ان ارتضت لنفسها حمل الرسالة وأداء الأمانة والوفاء لشهدائها الأبرار وقادتها العظام وفي مقدمته سماحة الشيخ عيسى قاسم والرموز المعتقلين. وكل عام وشعبنا وأمتنا ومعتقلونا بخير إنشاء الله.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
30 ديسمبر 2022