الربيع العربي عنوان الحرية والطريق للتغيير
في مثل هذه الأيام قبل اثني عشر عاما كان العالم العربي يعج بالاحتجاجات والتظاهرات العملاقة المطالبة بالتغيير السياسي. كان العديد من العواصم العربية يعيش هاجس التغيير الذي تأخر كثيرا في عالم لم يستطع النهوض من سباته بعد عقود من سقوط الخلافة الإسلامية وهيمنة الاستعمار على أراضيه وشعوبه. كان الوضع متوترا جدا بحيث استطاعت تضحية شاب تونسي واحد بنفسه كافية لإشعال لهيب الثورات التي انطلقت من تونس إلى ليبيا ومصر واليمن وسوريا والبحرين. كانت تلك الثورات مفاجئة للانظمة المهترئة التي رفضت، وما تزال ترفض، تطوير نظمها السياسية لتمنح الشعوب قدرا من الحرية ودورا في الحكم والإدارة. يومها فوجئت تلك الانظمة بحجم الغضب الشعبي المختزن في نفوس الكثيرين، كما فوجئت القوى الغربية التي ترددت كثيرا في مواقفها قبل ان تحسمها لصالح الحفاظ على الوضع الراهن ودعم الانظمة. وهنا برز تحالف “قوى الثورة المضادة” الذي ضم السعودية والامارات وحكومة البحرين والكيان الإسرائيلي، ودعمته كل من امريكا وبريطانيا. هذا التحالف المشؤوم استعاد توازنه واتخذ قرارات خطيرة استمرت آثارها المدمرة على المنطقة حتى اليوم ومن تلك الآثار ما يلي:
أولها: الحفاظ على المنظومة السياسية العربية بدون أي تغيير، ومنع سقوطها مهما كان الثمن. فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن كانت هذه المنظومة عاملا مهما لاستمرار التبعية والاستغلال ومنع ظهور مشروع أيديولوجي ينافس المشروع الاستعماري الغربي.
ثانيها: في الحالات القصوى التي كاد النظام السياسي يسقط، هرعت تلك القوى للتخلص من شخص الرئيس مع الحفاظ على الجسد السياسي كله بتشكيلاته وسياساته القمعية، فتم إزاحة زين العابدين بن علي عن رئاسة تونس، وحسني مبارك من رئاسة مصر وعلي عبد الله صالح من رئاسة اليمن.
ثالثها: تقوية الاجهزة الأمنية ودعمها بأحدث التقنيات وإطلاق ايديها للتعامل مع المعارضين بأبشع الأساليب. وكان من نتيجة ذلك تغول الدولة الحاكمة بشراسة أشد من السابق.
رابعها: دفع “إسرائيل” لتتخذ موقعا متقدما في السياسة الاقليمية لم تكن تحلم به في السابق. فأصبحت هناك شراكة أمنية بين أنظمة الاستبداد العربية وكيان الاحتلال تأسست على الدعم المتبالد لوجود كل منها. فالحكومات العربية المأزومة انساقت وراء مشروع التطبيع والاعتراف بالاحتلال وةالتخلي عن قضية فلسطين، وفي المقابل أصبح لكيان الاحتلال دور واسع في النظام الأمني الاقليمي الهادف لمنع التغييربشكل مطلاق.
خامسها: في مقابل الحفاظ على الأوضاع الراهنة، استخدم المال النفطي على نطاق واسع لضرب كافة التوجهات التحررية، وتمت ترقية حكومات لم يكن لها دور قومي في السابق، لتصبح راعية لمشروع شرق أوسطي جديد تحتل “إسرائيل” موقع الصدارة فيه.
سادسها: ان المشروع السياسي الجديد الذي نجم عن هذا التلاعب بالتوازنات السياسية يقوم على عقيدة سياسية معادية لأية توجهات تحررية او إسلامية، وتم إطلاق أيدي المنظومة الأمنية الجديدة للتصدي بشراسة غير مسبوقة لمواقع القوى الإسلامية، من حركات او جمعيات او دور عبادة او تجمعات شبابية تتطلع للتغيير.
سابعها: صاحب ذلك كله استخدام حرب ناعمة واسعة النطاق للتصدي للظاهرة الدينية وبث الفساد الأخلاقي وثقافة الابتعاد والانزواء عن الشأن العام خصوصا في اوساط الشباب الذي قامت ثورات الربيع العربي على أكتافه. وفي ذلك تمهيد لقبول مشروع الشرق الأوسط الجديد ابتحالف الاستبداد والاحتلال، والمغيّب عنه شعوب المنطقة.
ثامنا: الرهان اليوم قائم على نجاح مشروع تغييب الشعوب وإجبارها على الاستسلام للواقع الصعب والقبول بالتعايش مع الاستبداد والتخلي عن الهوية التي تقتضي المبدئية وتعمّق الشعور بالمسؤولية، فكل ذلك مطلوب لمشروع تحرير الذات وبناء الشعوب وتنمية البلدان وإعمار الأرض بالحق والعدل والإيمان.
ربما لم تكن هذه الأمور واضحة في أذهان شباب الأمة وشاباتها الذين استجابوا لنداء الثورة وأثبتوا لأنظمة الاستبداد وداعميها أن الأمة لا تموت وأن الظلم لا يدوم، وأن التغيير أصبح قاب قوسين. لكن من المؤكد ان الاستجابة للنداء الذي انطلق من مدينة سيدي بوزيد التونسية في إثر استشهاد الشاب محمد بوعزيزي كان تعبيرا عن حالة التوتر التي تعيشها الشعوب ورغبتها الجامحة للحرية.
السؤال هنا: لماذا لم تستطع الشعوب تحقيق ما كانت تتطلع اليه آنذاك؟ وهل ما تزال لديها الرغبة في الثورة ضد الوضع المفروض عليها بالقوة؟ وماذا عن دخول الكيان الإسرائيلي على الخط؟ وما مدى تأثير الدور الاسرائيلي على التطلعات الشعبية العربية للحرية؟ الأمر الموكد ان محتلي أرض فلسطين قد ربطوا وجودهم بأنظمة الاستبداد في المنطقة، وأن استبدالها بأنظمة حرة نابعة من الشعوب وقادرة على اتخاذا قراراتها من خلال ممارسة سياسية مفتوحة سيزيد الوضع تعقيدا. ففي الكويت التي تتمتع بقدر من الديمقراطية هناك رفض شبه مطلق لأي تطبيع مع العدو الإسرائيلي، ولا تستطيع حكومة ذلك البلد تجاوز هذا الرفض. بينما حكومتا الامارات والبحرين هرولتا على عجل للتطبيع ونكلت بشعبيهما بشكل مقزز، وتسعيان لفرض التطبيع بما لديهما من قوة. وما استقدام العصابة الخليفية في البحرين فرقا طبية إسرائيلية إلا ضمن سياسة فرض التطبيع على المواطنين وكسر الحواجز النفسية والسياسية بين المواطنين العاديين الداعمين لفلسطين وشعبها مع الاحتلال.
لذلك أصبح مطلوبا ممن بقي من النخب المثقفة في عالمنا العربي ممارسة دور فاعل في مجال التصيد لجريمة التطبيع، واعتبارها معيارا لأي نظام سياسي عربي، بموجبه يتقرر نوع العلاقة معه. هذا يعني رفض الحوار مع أي نظام يمارس التطبيع، واعتبار ذلك النظام خائنا ومجرما وخارجا على إجماع الأمة. ومن الطبيعي ان تكون ردة فعل الانظمة وداعميها الغربيين شرسا، ولكن ليس هناك بديل عن التمسك بقضية فلسطين باعتبارها القضية المفصلية لدى العرب والمسلمين وطلاب الحرية في العالم. ووفقا لاتفاق المصلحة بين الانظمة وتحالف قوى الثورة المضادة الذي أشير إليه آنفا، فأن على النخب المثقفة إعادة النظر في الموقف إزاء تلك الانظمة. فالمعروف ان قرارها لم يعد بيديها، بل أصبح من اختصاصات كيان الاحتلال الذي أصبح شريكا لها في الإجرام بحق الشعوب. ليس مطلوبا من أحد رفع قضية فلسطين كشعار فارغ، بل كقضية محورية يفترض ان تتحملها الامة وتواصل جهودها لتحريرها من الاحتلال. ولذلك أصبح التحرر من أنظمة الاستبداد أحد متطلبات تحرير فلسطين، لأن العملاء المطبّعين قد خانوا أرض المعراج وبذلك خانوا الله ورسوله والأمة. فهل ثمة خير يرتجى ممن ارتكب الخيانة العظمى؟
في ذكرى أجواء الربيع العربي، ما تزال مشاعر الجيل الجديد مشدودة الى تلك الاسابيع التي شعرت الامة خلالها بالعزة والكرامة وهي ترى جحافل المحتجين تملأ شوارع تونس والقاهرة وطرابيس ودمشق وصنعاء والمنامة. انها ذكريات جميلة قابلة للتحول الى واقع على غرار ما حدث. فالمعركة بين الحق والباطل، بين الحرية والاستبداد، وبين الإنسانية وأعدائها ليست محدودة بزمان او مكان، بل هي معركة متواصلة تتجدد في كل أرض يستيقظ شعبها على أنغام الثورة ويعلن استعداده على التضحية والفداء من أجل الحرية والكرامة. هذه المعركة تتجدد في شوارع البحرين حتى الآن، وترى اصداءها تتردد في الزنزانات التي يقطنها رواد الثورة العربية التي انقضت عليها قوى الاستبداد والظلم والاحتلال. إنها معركة الحرية والكرامة التي خاضها البحرانيون مع بقية الشعوب العربية، وما تزال صولاتها وجولاتها تتواصل بدون توقف، وما يزال ضحاياها يرزحون وراء القضبان خصوصا في البحرين. لقد ارتبطت أسماء شخصيات تاريخية عظمى مثل حسن مشيمع وعبد الوهاب حسين والشيخ علي سلمان والدكتور عبد الجليل السنكيس والشيخ عبد الجليل المقداد والشيخ محمد حبيب المقداد وعبد الهادي الخواجة وسواهم بالثورة والتغيير والكرامة، وستظل كذلك حتى يتحقق النصر ويسقط الطغيان والاستبداد والعمالة، وما ذلك على الله بعزيز
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الإسلامية
3 فبراير 2023