الصوم كما يفهمه المؤمنن الواعون المناضلون
الحمد لله قاصم الجبارين، مبير الظالمينن مدرك الهاربين، صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين
دروس إيمانية عميقة يستمدها الصائم الصادق من أدعية الشهر الفضيل، تدعمه في مسيرته الطويلة نحو التكامل والتحرر والتواصل مع السماء. ومع توالي أيام رمضان ولياليه، يتعمق التواصل بين الصائم وربه، ويزداد شعوره بالحرية، فمن أقوى منه إرادة وهو يمنع الشهوات من السيطرة عليه، ويترفع بنفسه وروحه عن إغواء الشيطان. إنه مشروع تدريب يهدف لصناعة الإيمان والحرية والجهاد النفسي والروحي كجانب من الاستعداد للمواجهة الكبرى مع الشياطين والطغاة والكافرين. المؤمن لا يبحث عن النزاع والخلاف، ولكنه إذا اضطر لذلك فلا يتردد او يتراجع، فهل هو إلا مشروع إصلاح وإعمار وجهاد من أجل الحق والخير والعدل؟ يعلم الصائم أن الله يحبه، وأن عليه ان يحب الله، وهذا الحب لا يتحقق إلا بطاعته والامتثال لما يريد، وقد أمره بالصوم وقال: كل عمل ابن أدم له، إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي عليه”. ولكي يصوم حقا فلا بد ان يكون لصومه انعكاس حقيفي في حياته لأنه مشروع تربية وإنماء، وليس ممارسة ميكانيكية منفصلة عن الروح والعقل والمشاعر. إنه كفاح شديد ضد الشيطان بهدف استعادة القرار والإرادة، ولذلك فهو مطالب باستيعاب دروس الصوم كاملة. والصوم البدني يصاحبه ارتباط مهم بالصلاة والدعاء والقرآن. وكل من هذه الممارسات يكمل بعضه بعضا ويصنع لدى الصائم وعيا حقيقيا يجعله قادرا على حمل المسؤولية المنوطة به من الله تعالى. فحين يقرأ في الأدعية المنسوبة لأهل بيت رسول الله عليهم أفضل الصلاة والسلام فإنه مطالب باستيعاب معانيها وتجسيدها في حياته العملية. هنا يدعو الصائم ربه بمساعدته لمواجهة الظالمين انطلاقا من وعيه بأن الله يكره الظلم وأهله ويأمر بإقامة العدل، لكي لا يسود الفساد في الأرض. فالظلم فساد في الأرض، والله سبحانه وتعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
هذه النظرة للصوم تجعل شهر رمضان فرصة للرقي الروحي، خصوصا إذا نظر الصائم لتاريخ أمته وما مرت به خلال شهور الصوم منذ ان جاء الإسلام. فلن ينسى غزوة بدر التي نصر الله المؤمنين وهم قلة: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة. ولا ينسى شخصيات الإسلام الأولى. وأولها، بعد رسول الله، السيدة خديجة بنت خويلد التي شاركت رسول الله أشد المحن وكانت عضدا له في بداية دعوته الشريفة. يتعلم من هذه السيدة العظيمة معنى التضحية بالنفس والمال من أجل نصرة دين الله وإعلاء كلمة الحق والتصدي للظالمين والمفسدين خصوصا الزعماء القبليين الذين رأوا في الإسلام تهديدا لهيمنتهم. ولا يفوته وهو صائم استحضار دور أبي طالب، عمر النبي الذي احتضن رسول الله وحماه من الظالمين حتى انتشرت دعوته وقام دين الله بدعمه، وهو القائل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا.
إنها ثقافة أيمانية تترسخ بمرور أيام شهر رمضان المبارك، يعمّقها الشعور بالجوع من جهة والعلاقة المفتوحة مع الله وأوليائه من جهة أخرى. ويعيها بعمق أكبر ذوو المشاريع الكبرى المؤسسة على الإحساس بالمسؤولية الإسلامية. هؤلاء يعملون لتفعيل مشاريعهم خصوصا ما يرتبط بإقامة العدل والتصدي للظلم، ضمن المشروع الإلهي المنوط بخلافة الإنسان على الأرض. هذا الصائم يرى في محمد وأهل بيته مثلا عليا في الإيمان والجهاد والعمل المتواصل لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل، تطبيقا للآية الكريمة: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. ويستحيل ان يتجاهلوا الدور الذي مارسه كل من السيدة خديجة وأبي طالب لدعم رسول الله وترويج دينه. ويرون في حياتهم المعاصرة من يتطلب طرح النماذج البشرية العليا التي احتضنت الرسالة وبثتها، ولم تتخل عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام لحظة. هذه النماذج بقيت طوال القرون اللاحقة أيقونات للمناضلين الباحثين عن العدل. وفي الأوضاع الراهنة تبدو الحاجة لكشف دور هؤلاء ضرورة لشحذ الهمم وتعبئة الطاقات لتحقيق أهداف الإسلام ومنها ترسيخ الإيمان وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، والتصدي للرموز القبلية التي أصرّت في السابق وما تزال تصرّ على التصدي للمشروع المحمدي بكافة تجلياته. في الصراع التاريخي بين الحق والباطل يتدخل الله سبحانه وتعالى لنصرة المؤمنين العاملين لتفعيل مفاهيم الاستخلاف والحق والعدل، مدعومين بما منحهم الله من قرآن خالد وسنة نبوية ثرية تواصلت من خلال آل بيت رسول الله والصحابة الذين ساروا على هداه.
في شهر رمضان المبارك يقف الصائم وجها لوجه أمام مسؤولياته، فهو في ضيافة الله وعليه أن يقدم كشفا بما فعله بإنجازاته وأخفاقاته. وبعينيه المبصرتين وبصيرته الثاقبة ينظر الى واقعه، فيرى أصحاب الباطل يشخذون سيوفهم للانقضاض على الحق وأهله، فيعتقلون العلماء والصالحين، ليقضوا أيام صومهم وحياتهم وراء القضبان لا لشيء إلا لأنهم يسعون لتفعيل المشروع الإلهي: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. وينظر من جهة أخرى فيرى المتخاذلين والساكتين عن الحق والمداهنين والمتسلقين، فيرى النفاق متجليا بوضوح. فما العمل. يفترض ان يدفعه صومه لعدم إقرار الباطل، وأن ينصر الحق، ويواجه الظلم وينتصر للمظلوم. فالصوم يقوّي لديه الصبر والقدرة على التحمّل، ولديه من مصاديق ذلك عدد كبير من عظماء البشر الذين فتك أصحاب المشروع القبلي بهم، فسجن الكثيرين منهم، وقتل بعضهم، ونفى آخرين، معتقدا أنه ملك الدنيا وما فيها. وما أبعده عن الحقيقة والواقع، وما أكثر الأوهام لديه، وما أقوى تأثير الشيطان عليه. أما هذا الصائم فقد تحرر من الشيطان ووساوسه، وفوّض أمره لله وحده ومضى في سبيله قاصدا إقامة دين الله متجليا بالإيمان والحرية والعدالة. فليس هناك في هذا العالم من هو أكثر حرية من الصائم المؤمن الذي يحمل المشروع ويوجه حياته على طريقه. حقا لقد استوعب مقاصد الصوم وأهدافه، وهزم الشيطان في نفسه، وأبعد الغمام عن عينيه حتى أصبح تجسيدا للآية الكريمة: “فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”. لقد رفض ان يبقى قلبه محصورا بالرين والارتياب والتردد والخوف والضياع، فيكون كالذين وصفتهم الآية الكريمة: “كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون”.
بهذه المعاني بدأ الصائمون البحرانيون شهرهم، وكلهم عزم وإرادة وطموح بحتمية استعلاء الإيمان وانتكاس الظلم وأهله. أغلب هؤلاء الصائمين عانى من الاضطهاد والقمع والتسلط، فحورب في وجوده بشكل مستمر، وفي رزقه، وفي أرضه، وفي سيادته، وفي أهله. فما أكثر العائلات التي تقضي أيام الشهر ولياليه وقلوبها متفطرة لغياب أبنائها في السجون. وما أكثر الشباب الذي يشعر أن الطاغية وعصابته يترصدون له ولكل من يرفض العبودية والاستكانة والاستسلام. هذه المشاعر تتعزز في رمضان بعد ان يذوق الصائم جرعة كبيرة من التحمل والصبر، ويشعر أنه قد هزم الشيطان في نفسه، وأنه قادر على هزيمة الشيطان من حوله او الجاثم على صدره. وهكذا يتحول الصوم إلى مدرسة لإعادة بناء الشخص وصياغة ذهنه على طريق الحرية والكرامة، وبعيدا عن الاستكانة والدعة والاستسلام لشرار الخلق. والأمل ان يستوعب الشباب هذه المفاهيم ليصبح صومهم حقيقيا وفاعلا، ولا ينحصر بالامتناع عن الأكل والشرب فحسب. وفقهم الله للهدى والإيمان والوعي والبصيرة والسير على خطى رواد مشروع محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، خصوصا خديجة وأبا طالب عليهما السلام.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
31 مارس 2023