المعتقلون السياسيون رقم صعبد في المعادلة البحرانية، وإضراباتهم تحرج النظام
لماذا يقدم السجناء السياسيون على الإضراب عن الطعام؟ أليس في ذلك مضاعفة لمعاناتهم؟ ما هو الضرر الأكبر من الجوع الذي يستخدم الجوع أداة لدفعه؟ وما مدى ما يمكن أن يصل إليه المضرب عن الطعام سواء على صعيد الأذى الجسدي ام تحقيق الهدف من إضرابه؟ هذا موضوع طويل وشائك وله جذور في تاريخ النضال، وهو ممارسة عامة في سجون الأنظمة الاستبدادية التي لا تراعي حقوق الإنسان ولا توفر المستلزمات الإنسانية للسجناء. ويتضاعف التنكيل بالمعتقلين حينما يكونون سجناء رأي اعتقلوا بسبب مواقفهم وأرائهم ونشاطهم المعارض للاستبداد. ولتسليط الضوء على هذه الظاهرة يجدر طرح ما يلي:
أولا: ان البحرين شهدت حالات كثيرة من الإضراب عن الطعام في سجونها. حدث ذلك طوال العقود الخمسة منذ الانسحاب البريطاني في ال عام 1971 وبدء مرحلة الاضطهاد والتنكيل الخليفي بالبحرانيين الأصليين (شيعة وسنة). وخاض معتقلو التسعينات إضرابات عديدة مطالبين بتحسين أوضاعهم. ولعل الأطول في هذا المجال إضراب الدكتور عبد الجليل السنكيس عن الطعام منذ 22 شهرا تقريبا، وفقدانه وزنا كبيرا وتحول جسده الى هيكل عظمي مع هزال وضعف في العضلات والمفاصل. وبالإضافة للإضراب عن الطعام هناك الإضرابات الصاخبة التي يقوم المشاركون فيها بترديد الهتافات والطرق على أبواب الزنزانات، او كما حدث مؤخرا، الامتناع عن العودة إليها. ففي نوفمبر 2019 بدأ ١٣ محكوماً بالإعدام إضراباً عن الطعام للمطالبة بتحسين أوضاع احتجازهم وتعديل الإجراءات القمعية التي فرضتها إدارة السجن آنذاك، لا سيما قرار تقليص الزيارة إلى مرة واحدة فقط كل شهرين ولمدة لا تتجاوز ٣٠ دقيقة ناهيك عن الحاجز الزجاجي الذي يمنع التواصل المباشر بين المعتقل وذويه. وقبل ذلك بشهر واحد، أقدم أكثر من ٤٠٠ سجين في سجني الحوض الجاف وجو المركزي على الإضراب عن الطعام احتجاجاً على ما اعتبروه تضييقاً عليهم وحرماناً من حقوقهم الأساسية كسجناء وتدخلت إدارة السجن فك السجناء إضرابهم بعد وعود بتحسين الأوضاع تفاديا لما يسببه الإضراب من حرج للعصابة الخليفية.وفي الفترة الأخيرة أضرب الشيخ عبد الجليل المقداد خارج زنزانته احتجاجا على حرمانه من العلاج المناسب. وفي الأيام الأخيرة قرر سجين الرأي أحمد عبد الله العرب، بدء إضراب عن الطعام احتجاجا على سوء المعاملة وغياب العناية الصحية وإساءة المعاملة من قبل المعذبين والجلادين. أنها واحدة من الحقب السوداء في التاريخ الخليفي الحافل بالاضطهاد والإجرام الموجّه ضد السكان الإصليين (شيعة وسنة) بعد أن أيقنوا باستحالة التعايش بين الطرفين، فعمدوا للانتقام بشتى الأساليب.
ثانيا: أن الإضراب عن الطعام يعتبر الوسيلة الأخيرة التي يملكها المعتقل السياسي عندما لا تجد استغاثاته صدى لدى سجانيه. وما أكثر المناضلين الذين استخدموا هذا النمط من الاحتجاج بهدف إجبار سجانيهم على الاستحابة لطلباتهم التي هي في الأساس متواضعة ولا تتجاوز المطالبة بتوفير القدر الأدنى من مستلزمات الحياة. ويعرف الجميع أنها الوسيلة الأخيرة التي لا يلجأ لها السجين إلا بعد ان يستنفذ كافة الأساليب والوسائل الأخرى. فهي مؤلمة جدا، لأن الطعام حاجة فطرية للإنسان لا يستطيع بذل الجهد بدونها، ولا يستقيم الجسد إلا بها. لذلك يدرك الذين يضطرون للقيام بهأ أنهم يخوضون معركة قد تصل الى وفاتهم. فاضطراب عمل الأعضاء الجسدية بسبب فقدانها الطعام قد يوقفها عن العمل وقد يكون الضرر باتجاه واحد، ولا يمكن إصلاحه. ولهذا لا يقدم على هذا العمل إلا من بلغ حالة اليأس من إمكان إصلاح أوضاعه في السجن بأية وسيلة أخرى. وتعلم الحكومات الجائرة الآثار الإعلامية السلبية للإضراب عن الطعام. وقد استطاع السجناء الفلسطينيون إجبار سجانيهم على تلبية بعض مطالبهم بعد أن بدأوا الإضراب عن الطعام. وهذا ما فعله خضر عدنان الذي تحول جسده الى هيكل عظمي بعد إضراب استمر أكثر من خمسة شهور مطالب بالإفراج عنه لان محاكمته كانت جائرة. أما السجناء الأيرلنديون الذين أضربوا عن الطعام في مطلع الثمانينات من القرن الماضي فقد كانوا مستعدين لدفع ثمان باهض لمطالبتهم بتحسين اوضاعهم في سجن “مَيز”. وقد توفي عشرة منهم في غضون عام واحد، كان أولهم المناضل الأيرلندي، بوبي ساندز، الذي توفي بعد 66 يوما من الامتناع عن الطعام بشكل كامل.
ثالثا: ان المعتقلين السياسيين في أغلب بلدان العالم يتحولون مع الوقت إلى الشعلة الضرورية لإبقاء الثورة متقدة. فطالما هناك سجناء رأي فسوف يستمر الحراك من أجلهم، او على الأقل تبقى روح التحدي للنظام قائمة لدى قطاعات واسعة. فقد بقي الشعب العراقي رافضا نظام صدام حسين حتى بعد ان تمكّن من القضاء على كافة أشكال الاحتجاج الشعبي. بقيت نفوس المواطنين متعلقة بأنفاس أولئك الذين يرزحون في سجن “أبو غريب” وغيره. وكان من أولى نتائج الانتفاضة التسعينية في العراق هروب الآلاف من المعتقلين السياسيين وكذلك الجنائيين. وكان الوضع في البحرين مضطربا سياسيا طالما كان هناك سجناء سياسيون. وما أن أفرج عنهم في العام 2001 حتى هدأ الوضع نسبيا. فالسجناء السياسيون يوفرون مادة للحراك الحقوقي والسياسي ومثالا لضرورة التغيير. ففي تونس اليوم، يعتبر اعتقال الشيخ راشد الغنوشي مثالا صارخا لعدم استقرار الوضع السياسي في ذلك البلد، وقد بدأ قيس سعيّد دربه للسقوط في اللحظة التي حدثته نفسها بالتعرض لرموز الشعب. والبحرين هي الأخرى مثال آخر لدور المعتقلين السياسيين في ديمومة الحراك الشعبي. هذا لا يعني أن إخلاء السجون سيؤدي لاستقرار النظام. ففتح السجون إنما هو علامة لوضع سياسي غير مستقر. فإن أقدم الحكم على إصلاحات سياسية جادة فربما يستطيع تجاوز الآزمة، وإلا فإنها سرعان ما تنفجر وتتصاعد. وما دام سجناء البحرين يرزحون وراء القضبان، فلن يستطيع الحاكم حماية وجوده حتى لو استخدم القمع المفرط، او لجأ للوسائل الناعمة بالخداع والتضليل وتوجيه أبواقه على ذلك الطريق. الواضح ان الحاكم الخليفي الديكتاتوري يراهن اليوم على وفاة رموز الوطن المعتقلين بشكل تدريجي، بحرمانهم من العلاج والتنكيل بهم ومحاولة تقليل شأنهم بالإهانة. فمشهد هؤلاء وهم مقيدون بالسلاسل إنما يعمّق مشاعر الكراهية للعصابة الخليفية، ولا تستفيد منه كثيرا سواء إشباع غريزة الطاغية المتجبّر الذي يعشق الاستعباد لكي يبقى السيد المطاع. فما أوهن بيت العنكبوت.
رابعا: ان العالم الحقوقي خارج البلاد ينشد كثيرا للسجناء السياسيين، خصوصا عندما يقومون بإضراب عن الطعام. هنا يصبح الجوع سلاحا فاعلا ووسيلة إعلام مؤثرة لا يستطيع الحاكم احتواء آثارها. لذلك سرعان ما يبادر لوقف ذلك الإضراب، تارة بالتهديد وأخرى بمنع الزيارات العائلية لكي لا تنتشر تفصيلات الاوضاع داخل السجون، وثالثة بإدخال عناصر خارجية الى الزنزانات للضغط على المضربين، او إقناع عائلاتهم لإقناعهم بوقف الإضراب. وقد أصبح مصطلح “الأمعاء الخاوية” شائعا لوصف الإضراب عن الطعام واعتباره سلاحا فاعلا ضد الاستبداد. وفي ظل حالة الاحتقان داخل السجون، ورفض الخليفيين إصلاح اوضاعهم وإصرارهم على مشاريعهم الفاشلة تحت مسميات العقوبات البديلة والسجون المفتوحة، فالأرجح تصاعد التوتر وحدوث المزيد من الإضرابات داخل السجون واستمرار الحراكات الشعبية المطالبة بالإفراج غير المشروط عن سجناء الرأي. فالقمع ليس حلا، وتجاهل مطالب الشعب يزيد الأمور تعقيدا والأوضاع توترا، فلا مجال امام الحكم الجائرة إلا الإذعان لمطالب الشعب العادلة فلن تنفعه سياسات التعجرف والغرور والإنتقام، كما لن تتحقق شرعيته بالاعتماد على الخارج لاستمداد شرعيته ما دام الشعب يرفض منحه إياها. “ولا يحسبين الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم، أنما نملي لهم ليزدادوا إثما”
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
28 أبريل 2023