في محراب الشهادة مرة أخرى: آل سعود كتبوا بدماء الشهيدين البحرانيين إقرارا بحتمية سقوطهم
عرجوا إلى ربهم راضين مرضييين، لا ليغيبوا عن هذه الحياة، بل ليتبوأوا مقعدهم عند مليك مقتدر. من هناك يطلون علينا نحن القانعين بهذه الحياة الذليلة، ليشرحوا لنا طريق الحرية والدرب إلى الله. أولئك رأوا ما عند الله راي العين، فتاقت نفوسهم للصعود، فطاروا كالحمائم بسلام آمنين، ينظرون فلا يرون إلا الحبور والسرور، وإلا رضا الله ورحمته: سلام قولا من رب رحيم. هنالك ينجو الصادقون ويخسر المبطلون، هناك تبلو كل نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحق. لم يكونوا يدرون شأن الشهيد والشهادة إلا بعد ان عبروا جسر الحياة واتصلوا بالآخرة، فإذا هم أمام ثلة من ملائكة الجنة تخاطبهم: ادخلوها بسلام آمنين.
ربما ظن البعض أن السياف الذي حز رقابهم قد انتصر، أو أنه حقق لأسياده فرصة البقاء الأبدي، بل ربما اعتقد البعض الآخر ان الضحايا الذين صعدت أرواحهم إلى بارئها قد خسروا معركة الوجود. ولكن أليس هذا هو اعتقاد الجهال وضعاف العقل واللاهثون وراء غيرهم وادعاءاته وتضليله؟ الم يقل فرعون: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ ألم يتصد القرشيون للمسلمين الأوائل معتقدين أنهم قادرون على وقف المسار التاريخي لحركة الإصلاح التي جاءت بها الأديان وانتهجها دعاة الخير على مدى التاريخ؟ ألم يظن السفاحون انهم سيخلدون إذا أزهقوا أرواح مناوئيهم ومناكفيهم؟ فأين الطغاة؟ أين المستبدون؟ أين أولئك السفاحون؟ لقد مضى أكثر من أربعين عاما منذ ان استشهد أول شاب من ابناء الحركة الإسلامية، وما يزال اسمه مرفوعا وذكره خالدا. فحينما خرج الشاب جميل العلي متظاهرا في أبريل 1980 ضد قتل الشهيد محمد باقر الصدر، اعتقله الخليفيون، وعذبوه، ولم يمكث وراء القضبان سوى أقل من شهر قبل ان تصعد روحه الى بارئها، محتسبة أجرها عند الخالق الذي لا يضيع أحد عنده. وما هي إلا بضع سنوات قبل ان تصعد روح الشهيد السيد أحمد الغريفي إلى ربها بعد تدبير حادث مروري في منتصف إحدى الليالي.
وتواصل مسار الشهادة والشهداء. وسرعان ما أصبح ذلك الطريق سالكا. وارتفعت أرواح المئات من البحرانيين إلى الله تارة في المواجهات الميدانية وأخرى تحت التعذيب، وثالثة بالإعدام. وما يزال الشعب يهتف بأسماء هؤلاء وهو يحتذي حذوهم ويرفع رايتهم ويصر على المطالب التي رفعوها وتحدوا الطغاة الخليفيين بها. وما حدث في البحرين حدث مثاله في الجزيرة العربية. فقد استشهد الكثيرون خلال العقود الأربعة الأخيرة، وقتل السعوديون في أماكن شتى.. فتارة استهدفوا النشطاء في المنطقة الشرقية، وأخرى في البيت الحرام عندما قتلوا المئات من أتباع جهيمان العتيبي، ولاحقا أطلقوا نيرانهم على المتظاهرين الأبرياء من الحجاج ليفتلوا اكثر من 400 منهم في العام 1987، وبعد عامين قطعوا رقاب 16 حاجا كويتيا لانهم احتجوا ضد ظلمهم واستبدادهم. واستمر قطع الرقاب حتى تجاوز ذلك وبلغ حد تقطيع الأوصال في عهد ولي العهد السعودي الحالي. وما تزال الذاكرة تستحضر قصة الإعلامي جمال خاشقجي الذي مزق سيافو محمد بن سلمان في أكتوبر 2018 أشلاءه داخل القنصلية السعودية بأسطنبول. ومرة أخرى يتضح عطش هذا الطاغية للدماء التي دفعته لأن يتحول الى سادي منقطع النظير، يتلذذ بقطع الرقاب وإزهاق الاوراح. وما أكثر اليمنيين الذين استشهدوا عندما استخدم طائراته العسكرية لقتلهم في وطنهم. وشاء الله ان يذله، فإذا بالذل يلاحقه في تلك الحرب، فيهزم شر هزيمة متقهقرا أمام زحف أبطال اليمن.
الطاغية لا يعترف بالهزيمة، فكبرياؤه وغروره وجهله وصلفه تمنعه من ذلك، وتدفعه لارتكاب المزيد من المغامرات غير المحسوبة، على أمل ان يحقق لنفسه نصرا وهميا يشفي غليله. وحيث فشل في تحقيق ذلك باستهداف الجيران وخوض غمرات الحروب الخاسرة، توجه نحو الداخل ليمعن في شعبه ظلما وسجنا وقتلا. فإذا بالعلماء والمصلحين في طليعة ضحاياه، ابتداء بالشيخ نمر النمر الذي قطع رقبته لأنه دعا إلى الإصلاح. ولم يسلم جثته لذويه ليدفنوها وفق عاداتهم ومراسمهم الدينية. واستمرت حملته الظالمة حتى وصلت الى بقية العلماء والدعاة، فشن حملته الظالمة في العام 2017 ولم يترك شخصا ذا شأن إلا واعتقله وزج به في طوامير التعذيب. وتواصلت جريمة القتل خارج القانون التي تعتبر إحدى الجرائم ضد الإنسانية. وفي يوم واحد من شهر مارس 2022 قطع رقاب 81 شخصا، نصفهم من المنطقة الشرقية. ولم يكن لهؤلاء من ذنب سوى مشاركة بعضهم في مسيرات سلمية قبل اكثر من عشرة أعوام للمطالبة بالإصلاح السياسي. وفي عالم تخلى عن المباديء والقيم غض “العالم الحر” طرفه عن تلك الجرائم، حتى أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق قام بعد يوم واحد من تلك المجزرة بزيارة للرياض. وبينما كان في طريقه أمر محمد بن سلمان بقطع رقاب أربعة آخرين. ولم ينطق بوريس جونسون بكلمة واحدة للاحتجاج على قتل الأبرياء.
وجاء ذبح اثنين من الشباب البحراني في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي ليضيف الى مسلسل الإعدام وقطع الرقاب وغياب أي دور للقانون. فلم يكن الشابان جعفر سلطان وصادق ثامر سوى شخصين مؤمنين بربهما ورسالتهما وشعبهما وقضيتهما. وشاءت الأقدار ان يكونا على الجسر الرابط بين البحرين والجزيرة العربية، فإذا بجلاوزة الطاغية يعتقلونهما ويبدأوا معهما فصلا دمويا آخر. فقد تعرّض الشابان لأبشع أصناف التعذيب لكي يوقعا إفادات مزوّرة تدينهما بامتلاك السلاح والتخطيط للعنف. وفي أجواء الطوامير السعودية لا يستطيع بشر الامتناع عن توقيع ما يريده الجلادون. في هذه الأثناء كان طاغية البحرين نفسه ينفذ حكم الإعدام بحق عدد من الموانين (علي السنكيس وسامي مشيمع وعباس السميع، ثم أحمد الملالي وعلي العرب) ويستهدف من يهرب من الحدود بالقتل، كما حدث لرضا الغسرة وآخرين. هذه المرة كان واضحا ان الحرب الخليفية على البحرين وأهلها الإصليين لا تعرف حدودا، وأنها حرب وجود شاملة، لا تستثني أحدا. فلولا الهبّة الشعبية الواسعة التي حدثت في إثر اعتقال سماحة الشيخ محمد صنقور في الاسبوع الأخير من الشهر الماضي لربما علّق على المشنقة أو أطلقت عليه أربع رصاصات في صدره. وأرغم الطاغية على الإفراج عنه بعد اربعة أيام برغم انه كان قد أمر بإيقافه سبعة أيام. الواضح ان الطاغية الحالي مسكون إلى النخاع بداء العظمة والغرور والصلف والإجرام. ويتوقع الكثيرون أن له دورا في قتل الشابين، ابتداء باعتقالهما في مايو 2015، مرورا بالتنكيل بهما وتعذيبهما لإجبارهما على توقيع إفادات مزيفة، وصولا إلى محاكمتهما الصورية وصولا إلى إعدامهما. وهناك إجماع لدى الحقوقيين على أن المحاكمة كانت تفتقر للمعايير الدولية للعدالة، وأنها استندت إلى “اعترافات” انتزعت تحت التعذيب. وخلال هذه الفترة كلها لم تتدخل الحكومة الخليفية ولو مرة واحدة إما للمطالبة بالإفراج عنهما، أو لوقف تنفيذ حكم الإعدام بحقهما.
لقد اتفعت روحا صادق ثامر وجعفر سلطان إلى الله العلي القدير الذي لا يظلم أحد عنده، وأظهر ذووهما من الصبر والصمود والعزة ما أخجل الجميع وكسر شوكة الطغاة والقتلة والسفاحين. هاتان العائلتان أظهرتا للعالم مجددا حقيقة المعدن البحراني الأصيل الذي يتميز بالعزة والكرامة والصبر والصمود بالإضافة للإيمان الراسخ والرضا بقدر الرب ومشيئته. كما أظهر الشعب وفاء لله والوطن والشهداء، فكانت مسيراته العملاقة والجنازة الرمزية للشهيدين تأكيدا للثبات والإيمان، والقطيعة المطلقة مع العصابة الخليفية المجرمة، إنها لحظة تاريخية أكدت للعالم عمق الجرح البحراني النازف الذي يزداد توسعا ونزفا باستمرار الحكم الخليفي المقيت الذي ارتكب الموبقات بحق الله والوطن والشعب وفلسطين. هذا الشعب يزداد إيمانه بحتمية النصر مع تصاعد أعداد الشهداء وتفاقم الاضطهاد والإجرام الخليفي والاستخفاف بحدود الله والتخلي عن المباديء والقيم. وسوف يستمر هذا التوازن القلق حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حيّ عن بيّنة”. لنا موعد مع النصر، كتبته دماء الشهداء ووعد الله المحتوم، فهو وعد غير مكذوب.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
2 أغسطس 2023