خواطر بمناسبة اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب
منذ عقود كان هناك تعويل على دور واضح للأمم المتحدة إزاء قضايا حقوق الإنسان. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ الاهتمام الدولي بهذه القضية، وفي غضون ثلاثة أعوام أقرت دول العالم “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. وتم تخصيص العاشر من ديسمبر من كل عام، وهو اليوم الذي أقر فيه ذلك الإعلان، يوما خاصا به تحت مسمى “اليوم العالمي لحقوق الإنسان”. كما اعتبر السادس والعشرون من يونيو “اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب”. وقد اعتادت المؤسسات غير الحكومية بشكل خاص، الاهتمام بهذين اليومين لترويج الثقافة الحقوقية بين الشعوب، وبهدف إبقاء هذا الملف مفتوحا أمام العالم. وساهمت أجواء الأمل التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية في دفعه الى صدارة الاهتمام الدولي في أجواء التوجه نحو عالم أكثر حرية وانفتاحا. ولكن سرعان ما تراجع ذلك المشروع وعاد العالم الى حالة الاستقطاب السياسي في داخل البلدان وخارجها. وشهدت الأعوام العشرون الأخيرة تراجعا ملحوظا على صعيد حقوق الإنسان. وتمر هذه المناسبة هذا العام في ظل تجاهل عام بعد أن فقد الملف الحقوقي زخمه، وتراجع في سلم اهتمامات دول “العالم الحر” على وجه الخصوص.
وازداد هذا الملف تراجعا بعد نشوب الحرب الأوكرانية. وهناك بضعة أسباب لهذا التراجع منها ما يلي: أولا الأجواء السياسية الناجمة عن الاجتياح الروسي وما أظهرته من عجز غربي عن التصدي. وفي ما عدا الدعاية الإعلامية والتصريحات النارية ضد روسيا، تُرك الشعب الأوكراني يخوض حربا طاحنة لوحده. وفي ظل تداعي دور الامم المتحدة وحالة الاستقطاب التي يعاني منها مجلس الأمن الدولي، لم تعد هناك مرجعية سياسية دولية تتعاطى مع الحرب وتعقيداتها. ثانيا: أن تأثر السوق النفطية بالأزمة الأوكرانية دفع دول “العالم الحر” للتوجه نحو الدول النفطية في الشرق الأوسط خصوصا السعودية. وهنا شعر محمد بن سلمان بقدرته على المناورة السياسية بدون أن يخشى ردة فعل من تلك الدول التي اصبحت اكثر احتياجا للنفط. لذلك بدلا من تطوير المنظومة السياسية في المنطقة واحترام حقوق الانسان، تعمقت حالة الاستبداد ومعها القمع والاضطهاد. ولتأكيد سطوتها، كثفت السعودية حالات الإعدام بشكل ملحوظ، ولم يصدر عن “العالم الحر” ما يردعها. ثالثا: أن الأوضاع الاقتصادية الضاغطة والارتفاع الجنوني للأسعار أضعف الاهتمام بالملفات السياسية والحقوقية في المنطقة، إذ أصبح المواطن مشغولا بكسب رزقه وتوفير اللقمة لعياله، وأصبحت الهموم الأخرى في أدنى أولوياته. وهكذا اصبحت انظمة الاستبداد في بلدان كالسعودية والبحرين والإمارات أكثر صلافة في تعاطيها مع الملفات الحقوقية، فتصاعدت الاعتقالات وغض العالم الغربي النظر عن السجناء السياسيين جملة وتفصيلا، كما صمتوا على القتل والإعدام الجماعي.
لذلك يأتي الاحتفاء بالذكريات الحقوقية مثل اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب باهتا وغير ذي شأن، ما عدا في اوساط العائلات المفجوعة بأبنائها القتلى والمعتقلين. هذه العائلات لا تستطيع تجاهل أبنائها المضطهدين الذين يرزحون في طوامير السجون، محرومين ليس من الحرية فحسب، بل من المستويات اللائقة بالإنسان داخل السجون. وفي أجواء الضغط والترهيب يسعى الكثيرون للهروب إلى الأمام بالصمت والتجاهل واللامبالاة، على أمل أن يوفر ذلك لهم حماية من بطش الحكام. مع ذلك فهم يعلمون أن الظلم لا يمكن حصره او احتواؤه او التقليل من آثاره، فما دام مؤطرا للمنظومة السياسية، فلا حماية لمن هم خارجها. لقد أصبح المواطن المظلوم أمام خيارين: أحدهما أشد مرارة من الآخر: بين التصدي للظلم وتحمل تبعات ذلك، او التماهي مع الظلم والسكوت على الطغيان والاستبداد. وقد يفضّل الكثيرون ذلك، ولكن الحقائق التاريخية تؤكد أن الظلم ليس له حدود، وأن بطش الطغاة يخترق حدود الزمان والمكان، فما دام الحاكم الظالم متربعا على الكرسي فلن يأمن أحد على نفسه لان الاستبداد يقرّ الظلم ويشرعنه ويوسع دوائره. ولذلك فالمطالبة باحترام حقوق الإنسان يجب أن يقترن بالعمل لتغيير أنظمة الاستبداد، وإلا فإنها مطالبة خجولة تطالب بأمر مستحيل تعلم أنه لن يتحقق.
لعل شعبنا في البحرين من أكثر الشعوب اهتماما باليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب بسبب معاناته الطويلة ووعيه وإصراره على التصدي لأسباب القمع والاضطهاد والتعذيب وعدم الاكتفاء بالتعبير عن المعاناة. وثمة نقاط يجدر طرحها بالمناسبة:
أولا: أن المناسبة المذكورة فرصة لإظهار معاناة ضحايا القمع السياسي في ظل أنظمة الاستبداد، ويجدر بالنشطاء السياسيين والحقوقيين ترويجها بشكل مناسب والاحتفاء بها، والاستفادة منها لبث معاناة المضطهدين الذين يرزحون في غياهب سجون الظلم والاستبداد.
ثانيا: أن المناسبة ذات أهمية خاصة لضحايا التعذيب، وما أكثرهم، فهناك من فقد إحدى عينيه، وهناك من انتهك عرضه وشرفه، وهناك من ابتلي بأمراض ناجمة عن التعذيب كالضرب والتعليق والحرمان من النوم. هؤلاء يحتاجون لبرامج غير متوفرة لإعادة تأهيلهم.
ثالثها: يجدر بالسياسيين والنشطاء والمفكرين التوقف عند هذه المناسبة والمساهمة بإثراء النقاش حول ضرورة تجريم التعذيب عمليا، باعتباره إحدى الجرائم ضد الإنسانية، ومعه الاعتقال التعسفي، والقتل خارج القانون والاضطهاد على أسس العرق والدين والمذهب.
رابعا الدعوة لاستحداث آليات دولية فاعلة لمحاصرة الحكومات التي تمارس التعذيب كسياسة ثابتة ومن ذلك تمكين الامم المتحدة ومجلس الأمن من اتخاذ اجراءات فاعلة ضد الحكومات التي تمارسه. وحكومة البحرين الخليفية على رأسها.
خامسا: الانطلاق من المناسبة للدعوة لتوثيق حالات التعذيب بشكل مفصل. هذا يتطلب التواصل مع النشطاء الحقوقيين في كافة البلدان، وتنظيم دورات خاصة للتدريب حول طرق التوثيق.
سادسا: إقامة الندوات والمؤتمرات لكشف التراخي الدولي إزاء قضايا حقوق الإنسان، وتسليط الأضواء على ظاهرة الفساد التي أدت لإعادة احتضان الأنظمة التي تمارس التعذيب والإعدام. فقد تم تقديم المصالح على المباديء كأساس في العلاقات الدولية، وتم تهميش المنظومة الحقوقية في التعامل السياسي الدولي.
سابعا: برغم ما قيل عن تطور الجهود العالمية في مجال حقوق الإنسان، ومن ذلك إقرار الميثاق الدولي ضد التعذيب Convention Against Torture (CAT) وأنها عابرة للحدود، فقد أصبحت دول “العالم الحر” تتحاشى إثارة الانتهاكات مع الانظمة التي تمارسه، وتمتنع عن إثارتها علنا، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع وتيرة الانتهاكات خصوص التعذيب.
ثامنا: ثمة إدراك لحقائق مهمة منها أن التعذيب ليس وسيلة ناجعة للحصول على المعلومات أو منع الجرائم، بل أن الهدف منه كسر إرادة المعتقل السياسي، ليبقى بعد ذلك بلا إرادة ويفقد ما يميز إنسانيته. هذا يعني أن الصمت على التعذيب يعني القبول بسلخ الإنسان من إنسانيته، وبذلك يلغى وجوده كإنسان، وفي ذلك حرب على الإنسانية.
تاسعا: من الضرورة بمكان ترويج ثقافة التضامن المجتمعي مع ضحايا التعذيب في كافة البلدان، وذلك باعتبار ضحاياه مظلومين وربما أبطالا يستحقون الاهتمام والاحترام والدعم والدفاع. أن دعم ضحايا التعذيب لا ينحصر بالجوانب المادية والصحية وإعادة التأهيل فحسب، بل يتطلب السعي لإعادة شعورهم بإنسانيتهم. ولا شك ان احتضانهم من قبل مجتمعاتهم يساهم كثيرا في تضميد جراحهم.
عاشرا: إن من أخطر الظواهر المرتبطة بالتعذيب انتشار ظاهرة “الإفلات من العقاب”. فنظام الاستبداد يحتضن الجلادين ويكرّمهم، ويمنحهم الأوسمة، ويرفض أي طلب من ضحاياهم لمقاضاتهم. وبرغم مرور أكثر من اربعة عقود على تحول التعذيب في البحرين إلى ممارسة منهجية، ليس هناك جلاد واحد يرزح وراء القضبان برغم تواتر التقارير الموثقة بحق الجلادين من قبل ضحاياهم. ومن المناسب جدا الاستفادة من اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب للتصدي لسياسة “الإفلات من العقاب” واعتبار ذلك واحدا من الجرائم ضد الإنسانية.
في هذه المناسبة لا يسعنا إلا الإشادة بصمود سجناء الرأي الذين طالما تعرضوا للتنكيل والتعذيب، فعلى مدى اثني عشر عاما نال الكثيرون منهم من التنكيل والإهانة والتعذيب في السجون الخليفية ما يندى له جبين الإنسانية.
المجد والخلود لضحايا التعذيب الخليفي ابتداء بسعيد العويناتي وجميل العلي وكريم الحبشي مرورا بسعيد الإسكافي ومحمد حسن مدن وصولا إلى كريم فخراوي وعلي صقر وزكريا العشيري والآخرين.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
23 يونيو 2023