الحسينيون ميدانيون وشهداء وأسرى: شموخ لا ينكسر
موسم عاشوراء يرتبط بشكل وثيق بالشهادة، ذلك المفهوم الذي ارتبط بالإيمان الصادق والحرية المطلقة. فمن يرغب في لقاء الله ويعتبر ذلك غايته فليس هناك ما يشده إلى الأرض، فاذا تحرر من رغباته وشهواته ونزواته المرتبطة بالأرض فقد حقق أقصى مراتب الحرية. فمن يستطيع مساومته؟ ومن القادر على اعتقال إرادته؟ فالذين التحقوا بركب الحسين يوم عاشوراء واستشهدوا معه أثبتوا قدرتهم على كسر الشيطان ووساوسه في نفوسهم، ولم يستطع يزيد وما لديه من جبروت وكبرياء وسلطة استمالتهم. فقد رأوا الله ببصائرهم فصغر ما دونه في أعينهم. فالشهيد يمتلك بصيرة ثاقبة ترى بنور الله فلا يحجبها الضباب ولا تتشوش رؤيتها لحظة واحدة. أما عشاق الدنيا وعبيد المال فعلى عيونهم غشاوة وعلى قلوبهم رين، لا يستطيعون رؤية ما وراء الضباب. يعيش أغلب البشر مدفوعين بغريزة البقاء وشهوات الدنيا، يعشقون الراحة ولو كان ذلك على حساب كرامتهم وحريتهم. فما أكثر الذين يستمرئون العبودية ويطأطئون رؤوسهم للتافهين من الحكام الذين يحكمون بالجبت والطاغوت، ولا مكان في قاموسهم لمعاني الإيمان والخير والإنسانية. وقد وصفهم القرآن الكريم بقوله: “والذين كفروا يأكلمون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم”. الشهيد يتمتع بالحرية المطلقة فتزول من أمامه كافة المغريات المادية وتحطم على صخرة إرادته وثباته كبرياء شياطين الإنس والجن.
إن الطريق إلى العلياء مظلمة ولن نضل وفي أيديكم الشعل
الشهادة إذًا تمثل ذروة التحرر من كل ما ينال من إنسانية الإنسان وكرامته. ولذلك قال رسول الله: فوق كل ذي بر بر حتى يقتل المرء في سبيل الله فليس فوقه بر. ولذلك أيضا اعتبر الشهيد حيّا. ينطبق هذا القول على من يستشهد في سبيل الله، فيخلد عند الله ويبقى ذكره مستمرا على ألسنة رواد الحرية. كما ينطبق على من يضحي بحياته من اجل الحرية والتصدي للظلم والدفاع عن المظلومين، حتى إن لم يكن مسلما. فالشعوب تتغنى بشهدائها، وتنصب لهم الأنصاب التذكارية، وتحيي ذكرياتهم، وتكتب عنهم الكتب والشعر. وكيف لا يكون المضحي من أجل الحرية بهذا المستوى والقدر؟ إنه يطفيء شعلة حياته لإنارة الدرب للآخرين، فتسير الجماهير على دربه، لا تخشى الابتعاد عن الطريق، ولا تضيع بوصلتها. فالشهيد هو البوصلة وهو العنوان والمعياروذروة الجود والعطاء، هذا ما فعله شهداء كربلاء يوم الطف، حين سعى الحكم القبلي الشرّير للتشويش على نقاء الإسلام المحمدي، وانكفأ الكثيرون عن المنازلة، ولم يبق سوى حفيد رسول الله حاملا مشعل الهداية والتضحية. وقف أولئك الأحرار معه، وذادوا عنه وعن حرمه ولم يخشوا بطش يزيد وجبروته
جادوا بأنفسهم في حب سيدهم والجود بالنفس أقصى غاية الجود
من وحي كربلاء يستوحي عشاق الحرية مثلهم الأعلى ومن الحسين قدوتهم التي لا يساويها شيء. ومنذ استشهاد الحسين بن علي عليه السلام في العام 61 من الهجرة (680 بعد الميلاد) توسعت دائرة الحرية والتحق بالركب الحسيني أجيال متعاقبة، وتحوّلت القبور التي احتوت أشلاء شهداء الطف إلى مزارات للمؤمنين وعاشقي الحرية والمتصدين للظلم. وها هي المنازلة السنوية بين اليزيديين والحسينيين تتجدد كل عام. فالحسينيون يصرون على إحياء ذكرى الطف بمواكبهم وهتافاتهم المنطلقة من نداءات الحسين يوم عاشوراء: هيهات منا الذلة. انطلق ذلك النداء من صحراء كربلاء حيث رددته الهضبات الصغيرة هناك وسمعه الطيور وكتبه التاريخ بدم الشهادة الذي لا يجف او يتغير لونه القاني. لم تكن تلك الكلمات التي أطلقها الحسين بن علي جزافا، بل كانت عناوين لمشروع الإيمان المنطلق من دين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وتأطيرا لمشروع تحرري يفترض ان ينتمي له المؤمنون. فلا إيمان حقيقيا إلا بالحرية التي تتيح للإنسان حرية الاختيار ليصل من خلال تلك الحرية والبحث إلى الله ويحتضن تشريعاته التحررية. إنها حرية كاملة يحاربها النظام السياسي الذي حكم المسلمين ماضيا ويحكم العالم حاضرا. هذا النظام يرفض منح الإنسان تلك الحرية الكاملة برغم الدعاوى الفارغة والشعارات البرّاقة. فإنسان اليوم محاصر بالانظمة السياسية والاقتصادية الهادفة لتركيعه واستعباده وتحييده عن أداء دوره للتصدي للباطل والظلم والاضطهاد والاستغلال والتبعية. الحسين كان القائد التاريخي الذي ضحى بنفسه وأهل بيته وأصحابه لحماية تلك الحرية وإضعاف قبضة الاستبداد القبلي المقيت.
صحيح أن هناك محاولات مستمرة لتحويل عاشوراء إلى طقوس متكررة لا تتجاوز في مفاعيلها أجواء المناسبة، ولكن هناك كذلك من استوعب رسالة الحسين خصوصا نداءه الأول لبني هاشم: من لحق بي منكم استهشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح. لقد أطّر حركته بذلك النداء ولم يضغط على أحد سواء من أهله او أنصاره للخروج معه. حزم حقائبه وأعد أهله وخرج في قافلة مهيبة من مكة متوجها إلى العراق ليكتب التاريخ في أرض الرافدين بدماء الشهادة المنبعثة من منحره ومن معه. ومنذ تلك اللحظة أصبح للجهاد والنضال والالتزام بدين محمد بن عبد الله معان ثابتة: أن الانتماء الى معسكر الحسين يعني الشهادة، ويتضمن كلام الإمام عليه السلام أن تلك الشهادة تمثل فتحا مبينا، وأن الابتعاد عنه لا يوصل للنصر أبدا. فالحسينيون شهداء خالدون، سواء قتلوا ام صمدوا في مواقفهم وسجنوا وعذبوا. هؤلاء الحسينيون ملأوا السجون منذ أن أعلن الحسين الثورة على المشروع الأموي. يومها لم يبق موال لرسول الله وأهل بيته إلا اعتقل، خصوصا في البصرة والكوفة. لقد أدرك مسلم بن عقيل تلك الحقيقة بعد وصوله الكوفة، فرأى الانقلاب الأموي المشؤوم وقد قلب موازين القوى بالقهر والإكراه والقسوة والسجن والتعذيب والقتل. كان ذلك بداية للاضطهاد الممنهج الذي لم يتوقلف منذ ذلك الوقت. فقد هيمن على المسلمين حكام احتضنوا المشروع الاموي ونكّلوا بالناس شر تنكيل. وما اكثر ما أضفوا صبغة دينية على ممارساتهم، فكأن لهم حقا إلهيا في الحكم يوفر لهم شرعية الفتك والتنكيل. ولذلك تراجع المسلمون في مجال الحضارة والعلم وتراجعت بلدانهم عن مسار التقدم.
ولم تتوقف مؤامرات أعداء الإنسان والحرية على محاصرة المشروع الحسيني والعمل لإبقاء الاحتفاء به في دائرة الطقوس الجامدة، وتغييب رسالة الحسين عليه السلام الخالدة التي استهلها بصراحة غير مسبوقة: من لحق بنا استشهد. فأي زعيم سياسي او ديني يخاطب من حوله بهذه الصراحة؟ الهدف من ذلك فحص عمق إيمان الأنصار ومدى استعدادهم للتضحية. غير ان عرض السيرة الحسينية مستهدف من قبل الظالمين، ماضيا وحاضرا، فالحسين قائد الإصلاح الديني ورمزه التاريخي الذي لا نظير له. ولكنه لم يكن ليصبح كذلك لولا وضوح طرحه منذ اليوم الأول. فقد أعلن أن مشروعه استشهادي، وأن من يلتحق به عليه ان يوطّن نفسه على الموت وأن لا ينتظر غير ذلك. وفي الوقت نفسه أصدر تحذيرا واضحا للذين يعيشون وهم السلامة الشخصية عندما يتخلون عن مسؤوليتهم ويظنون أن التخلي عن أداء الواجب سيحميهم من بطش الظالمين او أنه سيحقق لهم حياة رغيدة آمنة. فمن لم يلحق بالمشروع الحسيني فلن يبلغ الفتح ولن تتحقق له ما يتطلع له من أحلام هي أقرب للوهم منها الى الحقيقة. وهكذا تتضح الصورة الحقيقية للمشروع الحسيني المحفوف بالشهادة والنصر المحتوم، وهي صورة رسمها الحسين عليه السلام تارة بكلامه واخرى بدمائه وثالثة بنسائه وحرمه اللاتي حملن اللواء بعد أدى الحسينيون واجبهم واحتضنوا الشهادة طوعا.
ولقد سار شباب الأمة على النهج الحسيني ولم يتخلفوا عنه. فما أكثر الحسينيين الذين استشهدوا في البحرين على أيدي اليزيديين الجدد، وما أشجع الأبطال الذين يتصدون للعدو اليزيدي بثقة وإيمان وطمأنينة. ان المعادلة الحسينية مضادة للمعادلة اليزيدية التي تطمّع الناس في العيش الهانيء إن تقمصوا الجبن والانكفاء. لقد كان الشهداء البحرانيون حسينيين حقا وآخرهم الشابان صادق ثامر وجعفر سلطان. سيستمر الحسينيون في مشوار التصدي ليزيد ومشروعه الإجرامي، وسنيتصر الحسينيون دائما لانهم عشاق الحرية والكرامة والإنسانية.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار واجعل لهم قدم صدق عندك وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
21 يوليو 2023