ما بعد كربلاء: استيعاب جوهر النهضة الحسينية ضرورة لحماية الإسلام والحرية
بحلول مساء العاشر من المحرم انتهى الفصل الأول من ملحمة الطف التي برز فيها الإسلام المحمدي كله إلى المشروع الأموي كله، فكانت النتيجة استشهاد أفضل إنسان على وجه الأرض آنذاك وبدء فصل جديد من الصراع بين الطرفين بأنماط شتى من المواجهات. فالامة التي خذلت الحسين عليه السلام السلام ما تزال في سبات بعد ان خدّرها الحكم الأموي بشتى الأساليب ومنها الأسلوب الديني. فقد استطاع معاوية فصل الدين عن الدولة بشكل فاعل استمر حتى اليوم، وفتح الباب للتنافس على السلطة السياسية من قبل الطامعين والمنحرفين والمتمرّدين ضد الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة والسلام. وبغياب رجال ذلك المشروع عن الساحة، لم يبق غير النساء المفجوعات اللاتي تعرّضن لأبشع أساليب التنكيل على مدى اربعين يوما لاحقة، عانين خلالها الأسر والسبي. الأمر المؤكد ان التنافس السياسي حسم لصالح الامويين، ولكنه لم يكن نصرا حلو المذاق. فسرعان ما حدث التمرد من داخل بيت يزيد نفسه، ابتداء من امرأته التي امتعضت لقتل الحسين بن علي عليه السلام. وما ان قتل يزيد بعد ثلاث سنوات حتى اتضح عمق الشروخ في البيت الأموي، فرفض نجله، معاوية، استلام الحكم قائلا أنه من حق آل محمد صلى الله عليه وآله.
مسيرة الأسر الطويل كانت مفعمة بالمواقف المبدئية، ويوما بعد آخر تحولت الى مسرح للمناكفات الأيديولوجية التي هيمن عليها الركب الحسيني بجدارة وامتياز. فهذه زينب تقود المسيرة بعد أن اقتيدت ومعها علي بن الحسين السجاد عليه السلام وبقية بنات الرسالة. كانت مسيرة منهكة لأجساد أنحلها الآسى والحزن. وقد أحسنت زينب القيادة ومارست دورها بقدرة فائقة ساهمت في التأثير على الرأي العام وأفقدت “النصر” الأموي بريقه. فحالة الأسى تنتشر بين من يملك ذرة من الإيمان، ويشعر أنه خذل الإسلام المحمدي، وأصبح عبدا لدى رموز المشروع الأموي. وظهرت نماذج من البشر الذي امتحن الله قلبه للإيمان فصمد حتى استشهد. ومن هؤلاء عبد الله بن عفيف الأزدي. ففي قصر ابن زياد بالكوفة حدث أول تمرد علني ضد الانقلاب الأموي، قاده هذا المؤمن الكفيف، حتى استشهد. وكانت مسيرة الركب الحسيني حافلة بالمواقف التي كشفت حقيقة الأمويين حتى بلغت ذروتها في مجلس يزيد في الشام. هناك تألقت زينب وابن أخيها علي بن الحسين، حتى كاد الأمر ينقلب على يزيد، وتحولت أجواء الاحتفال داخل قصره الى مجلس عزاء.
هذا لا يعني ان الحكم الأموي قد تزعزع من جذوره، فالقوة لها منطقها وأثرها على مواقف البشر، وكذلك المال والمنصب. كما أن للقسوة المفرطة التي مارستها أجهزة الأمن الأموي دورا في منع انهيار الوضع وانقلابه تماما ضد يزيد. أربعون يوما من السير المنهك كان له أثر كبير على الأجواء التي عاشتها السيدة زينب وبقية النساء والأطفال. وفي دمشق تضاعفت المحنة في ظل أجواء البهرجة التي تخللتها الطبول والدفوف منذ دخول الركب الحسيني من باب الساعات في دمشق. صحيح أن بعض المواقف كان لها شيء من الأثر، ولكن يزيد مارس قبضته الحديدية على الناس، فكانت عيونه في كل زاوية، واستطاع بشكل أو آخر احتواء الموقف. ففي نظر أغلب الناس كان الأمر طبيعيا، خصوصا مع انتشار الدعاية الأموية والحديث المتكرر عن وجود حالة تمرد استطاع الحكم إخمادها. لم يكن الوضع في تلك المدينة التي كانت مقر الحكم الأموي يسمح بأي شكل من أشكال بالتمرد، فالجيوش منتشرة على الثغور على الحدود المترامية لما يسمى “الدولة الإسلامية”. بينما كان الحسينيون مطاردين في كل مكان بعد ان أخرجوا من سجون البصرة والكوفة بعد استشهاد الأمام الحسين عليه السلام. كان الأمر مضطربا حتى في الأوساط الملتزمة. صحيح ان البيت الهاشمي كان تحت سيطرة أجواء الحزن بعد ان انتشر خبر مقتل الحسين ومن معه، ولكن الأعم الأغلب كان يعيش حياة عادية، وقد يعبر عن استيائه لما حل بآل رسول الله.
ويمكن القول أن الأعوام العشرة التي أعقبت استشهاد الامام الحسن بن علي عليه السلام، شهدت تحولات فكرية وثقافية فرضها الحكم الأموي استعدادا للانقضاض على دين محمد بن عبد الله. وقد استطاع يزيد إقناع الكثيرين بأن المعركة كانت سياسية وأنه يخوض معركة تنافس على الحكم مع البيت الهاشمي، فليس هناك دين او وحي او قرآن او إمام ، حتى استشهد بأبيات عبد الله بن الزبعري: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل. لقد كانت سياسات معاوية للتصدي للإسلامي المحمدي جادا وفاعلا. وقد استطاع إعادة الأمة إلى الجاهلية بشكل واضح، وأجبرها على التخلي عن آل محمد الذين كان الرسول قد جعلهم المرجع الثاني للمسلمين بعد القرآن الكريم: إني مخلّف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا”. وهل يعني الانقلاب على عترة محمد بذلك الشكل القاسي الذي بلغ حد قتل حفيده وأهل بيته إلا التخلي عن الثقل الأول وهو القرآن الكريم. وهل مهمة عترة رسول الله إلا حمل راية القرآن وبث علومه وشرح آياته للناس؟ فالإسلام بدون دور الرسول وأهل بيته يبقى غامضا للكثيرين. ولذلك قام المشروع الأموي على أساس واضح: إلغاء دور آل الرسول لإضعاف الإسلام او تشويهه او تهميشه، وبذلك ينتشر بين المسلمين خواء ديني وروحي وفكري يضعف حضور الإسلام في حياتهم العامة. فلا بد من إقصاء هذا الدين عن الحكم لينقض عليه آل أبي سفيان الذي رفض اعتناق الإسلام إلا مجبرا.
وهكذا تبدو مهمة الحسين عليه السلام عملاقة بحجم مهمة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. وحين يقال أن الإسلام محمدي الوجود، حسيني البقاء، فإن ذلك ليس بعيدا عن الواقع أبدا، بل هو الواقع الذي عاشته الرسالة بعد استشهاد الحسين ومن معه. فقد كان أبو عبد الله فيصلا بين المشروعين: الإسلامي والأموي، ومنطلقا لمشاريع دينية وفكرية وسياسية بدأت بعد استشهاده مباشرة. صحيح ان الامة كانت تعيش تحت التخدير والخوف والتراجع، ولكن كان هناك بقايا من نور الإسلام في قلوب الكثيرين من أبنائها. وإن من الخطأ الكبير التقليل من آثار الخطط والمؤامرات التي تواصلت على مدى نصف قرن بعد رحيل محمد بن عبد الله، خصوصا مع إبعاد رموز الصلاح والتقوى والوعي، وبث أجواء الخوف والرعب والانتقام على نطاق واسع. فقد انتشرت أساليب الاعتقال والتعذيب والقتل والإعدام التي استهدفت الصالحين والأخيار أمثال أبي ذر وحجر بن عدي وميثم التمار. وجاء قتل الحسين لإزالة آخر خطوط الدفاع عن مشروع محمد بن عبد الله. ولذلك خاطب الحسين عليه السلام الأمة بقوله: “أما إنّكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي”. وبقتله حرم الإسلام من أقوى المدافعين عنه، وتم تهميشه تدريجيا، ولم يبق منه سوى الإسم. بهذا الطرح يفترض ان تتضح مفاهيم الإيمان والإسلام المحمدي والحرية وحكم القانون ودور الأمة، وكلها قيم استهدفها المشروع الأموي الذي استمر حتى الوقت الحاضر. والأمل ان يستوعب المؤمنون وعشاق الحسين المعاني المذكورة للصمود على خط الدفاع عن الإيمان والحرية والفضيلة التي نحرت مع الحسين في بوغاء كربلاء.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك وفك قيد أسرانا، يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
4 أغسطس 2023