قلوب الشعب وأحرار العالم تخفق مع السجناء السياسيين المضربين عن الطعام
الطعام من أهم لذات الحياة ومن أول ضروراتها، فبدونه يفقد الإنسان القدرة على الاستمرار في الحركة والعطاء. فهو وقودها الأساس. وحين يقرر شخص ان يتوقف عن تناول الطعام، فإنه يضحي ليس بلذته فحسب بل بمقوّمات حياته كذلك. ولذلك لا يلجأ الإنسان لاتخاذ قرار الامتناع عن الآكل او ا لشرب إلا حينما يعتبر أن تبعات ذلك مهما عظمت ستكون أهون مما يعيشه من أوضاع. وحتى في السجون المظلمة لا يدخل المعتقلون في الإضراب إلا حين يشعرون أن سغبهم أقل إيلاما من تحمّلهم الأوضاع التي يعيشونها. فسجون الدول المتحضرة ليست انتقامية بل جزائية وربما تأديبية. أما سجون الطغاة فتهدف لكسر إرادة المعتقل والانتقام منه، هنا يغيب حكم القانون تماما، فالقاضي الذي “يطبّق القانون” إنما ينفذ أوامر الطاغية وقراراته ويلبي رغباته في الانتقام من مناوئيه. وبهذا يصبح القاضي شريكا في الجريمة والفساد. ويتعاطى مع “المتهم” الذي لا تتجاوز خطيئته انتقادا وجهه للطاغية او مشاركة في مسيرة تطالب بإصلاح الأوضاع، او كتابة مقال يتطرق للأوضاع المأساوية التي تعيشها البلاد في ظل حكم الاستبداد. مع ذلك فهذا “القاضي” ينزل أقصى العقوبة ليس تطبيقا للقانون بل تنفيذا لرغبة الطاغية القائمة على حب الانتقام والتلذذ بمعاناة من يعارضه. وإلا فما معنى ان يقضي الاستاذ حسن مشيمع مثلا أكثر من عشرين عاما (منها اكثر من 12 عاما منذ اعتقاله الأخير والبقية مجموع احكام السجن التي قضاها في الثمانينات والتسعينات) برغم أن أحدا لا يستطيع ان يسجل عليه ارتكابه جرما يحاكم القانون عليه (القتل، السرقة، الاختلاس، التخريب ….).
من هنا يجدر الاضراب الذي بدأه المعتقلون السياسيون البحرانيون مؤخرا بالاهتمام لعدد من الأسباب: أولا أنه تعبير عن حالة يأس من إمكان إصلاح أوضاع السجون بما يجعلها منسجمة مع معايير العدالة وتوفير أدنى مقومات الحياة الإنسانية بأدنى مراتبها، ثانيا: أنه تأكيد لحيوية شعب البحرين الذي عانى من الظلم والقهر عقودان ويصر على إنهاء محنته بما يمتلك من وسائل سلمية. ثالثها: أن الإضراب عن الطعام ظاهرة خطيرة قد تؤدي لفقد المضربين حياتهم، كما حدث في بعض الحالات ومن بينها إضراب المعتقلين الإيرلنديين ووفاة عشرة منهم جوعا قبل أكثر من أربعين عاما. رابعها: أن الإضراب شهادة حية تنطق بالظلامة وتقدم شهادة دامغة لظلم الحكم الاستبدادي وتكشف مدى بعده عن الإنسانية. خامسها: أن إضراب سجناء البحرين عن الطعام يمثل ظاهرة متميزة في منطقة لم تشهدها من قبل، وقد تؤدي فيما لو تطورت إلى اضطراب كبير في الأوضاع الإقليمية.
منذ أكثر من نصف قرن داب السجناء السياسيون البحرانيون على المطالبة بتحسين أوضاع السجون لتكون صالحة للعيش البشري. وبدأ هذا الاهتمام في النصف ا لثاني من الستينات عندما أضرب العديد من ا لمعتقلين سجن سافرة آنذاك عن الطعام احتجاجا على أوضاع السجن الذي كان عبارة عن مجموعة من الصناديق الخشبية التي يضم كل منها شخصين وسط الصحراء التي تلتهب حرارة في فصل الصيف. ووقع أكثر من عشرين معتقلا سياسيا في العام 1974 رسالة الى رئيس المجلس الوطني آنذاك مطالبين بتحسين اوضاعهم (ومنهم محمد حسين نصر الله أحمد حميدان وعلي الشيراوي ومحسن مرهون). واستمرت الاوضاع السيئة في السجون طوال العقود الأربعة الأخيرة حتى اليوم.
برغم المطالبات المستمرة من قبل المئات من معتقلي الرأي بتحسين أوضاعهم خصوصا في مجال الرعاية ا لصحية المحرومين منها والابتزاز بحرمانهم من الزيارات العائلية والتضييق على ممارساتهم الدينية ومعاقبتهم بالحبس الانفرادي والعزل إذا رفضوا أوامر الجلادين فقد استمر الرفض الخليفي لتلك المطالب. والسبب؟ الطاغية يهدف لتحقيق عدد من الأهداف من وراء ذلك: أولها إبعاد النشطاء عن الساحة بإبقائهم في السجن سنوات طويلة حتى وصلت الأحكام التي صدرت بحق بعضهم أكثر من 400 سنة. ثانيها: التشفي والانتقام وهي خصلة متأصلة في نفس الطاغية الذي شعر منذ اللحظات الاولى لانطلاق ثورة 14 فبراير أن شعب البحرين يرفضه ويطالب بسقوطه، حتى أصبح شعار “يسقط حمد” يتكرر في كل مسيرة واحتجاج، ويكتب على الشوارع العامة. ونظرا لغطرسته وإصابته بداء العظمة، فقد اعتبر ذلك إهانة لا تغتفر، فاستبدل حكم القانون بعقلية الانتقام والتشفي. ثالثا: أنه يهدف لغرس روح اليأس في اوساط المواطنينن بإقناعهم بفداحة ما ينتظرهم من عقوبات التي وصلت إلى الإعدام والتعذيب والسجن الطويل وسحب الجنسية والإبعاد عن البلاد والتحالف مع الصهاينة لاستقدام خبراتهم القمعية واستخدامها ضد البحرانيين.
هذه الحقائق تجعل الإضراب الحالي من أكبر التطورات السياسية في البلاد في الفترة الأخيرة. فقد عمّقت حالة الاستقطاب بين البحرانيين والخليفيين وأعادت الحيوية للتفكير السياسي ووفرت دفعة قوية للحراك الميداني، ودفعت المفكرين والعلماء للتنظير لقيم الكفاح والثبات والصبر ورفض الظلم، مركّزين على الهوية ا لبحرانية الأصلية المستهدفة من قبل العصابة الخليفية وداعميها. وهذا يعني ان البلد على موعد مع مستقبل قريب حافل بالفعل السياسي المدعوم بحراكات ميدانية مفتوحة. وفي الوقت نفسه أصبح الوضع مفتوحا على كافة الاحتمالات بعد ان بلغت أزمة البلاد مداها وتحولت إلى مستنقع يغرق فيه من يدافع عن الاستبداد والظلم والحكم التوارثي الجائر. فهذه الجهات الدولية، الحقوقية والسياسية، بدأت تعي حقيقة وضع بلد يمارس حاكمه سياسات الانتقام والتشفي ويغيب عنه حكم القانون. لقد صمت العالم طويلا على الجرائم الخليفية حتى نقل الناشط الحقوقي الدولي عبد ا لهادي الخواجة مريضا إلى المستشفى وقد أصبح ضحية للقمع والاضطهاد والإهمال الطبي المتعمد من قبل العصابة ا لحاكمة. ولا تقل معاناة الأبطال الآخرين عن معاناة الخواجة. فالأستاذ حسن مشيمع، أكبر السجناء سنّا تزداد أوضاعه الصحية تداعيا نتيجة الإهمال المتعمّد وحرمانه من القدرة على الحركة منذ نقله الى زنزانة معزولة بعيدا عن السجناء الآخرين. وكذلك حال الدكتور عبد الجليل السنكيس الذي نحل جسمه نتيجة الإضراب المتواصل عن الطعام منذ عامين.
هذه الحقائق تؤكد معاني عديدة: أولها أن الوضع السياسي في البحرين يختلف عن أي بلد آخر، فالبلد محكمة بعصابة ارتبطت عقليتها بالخارج منذ احتلالها البلاد، وما تزال سياساتها ترتكز على افتراض استمراد الدعم الخارجي في كل الأمور، ابتداء بقيادات الأمن وعناصره، مرورا بسياسات القمع المصممة من قبل أعداء الأمة، وصولا إلى إدارة الأزمة نفسها. العنصر الخارجي يمثل العمود الفقري للسياسات الخليفية بعد ان يئس الطاغية وعصابته من استسلام الشعب البحراني الأصلي (شيعة وسنة) لنظام حكمه الغاصب. يشعر حمد بن عيسى أنه يحكم البلاد والعباد بقوة الخارج بثمن بخس مسلوب من ثروة الشعب، ولذلك تخلى في السنوات الأخيرة جملة وتفصيلا عن السعي لضمان شرعية شعبية او دستورية. ويعمل هذا الطاغية كذلك ان هذه المعادلة ليست مرشحة للاستمرار في ظل استمرار الحراك الشعبي والمقاومة المدنية المتواصلة وتعمق الوعي الوطني وفشل سياساته الهادفة لتمزيق الشعب او تضليله إلى الأبد. وهكذا اصبح الوضع يزداد استقطابا بعد ان وصلت مشاريع الطاغية الى نهاياتها وعجزت عن حل الأزمة السياسية المستفحلة. ويأتي إضراب السجناء السياسيين عن الطعام ليعيد تحريك الوضع بشكل نهائي نحو التغيير المنشود وتحرير البلاد من حكم العصابة المجرمة. الشعب باق بثبات وصمود، على العصابة الخليفية تسليم السلطة للشعب بعد عقود من الفشل والتنكيل والجرائم ضد الإنسانية التي لا تتوقف.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
18 أغسطس 2023