إنا لننصر رسلنا والذين أمنوا في الحياة الدنيا انتصار السجين واندحار السجان
كان متوقعا أن تكون إرادة السجين أقوى من جريمة السجان، فالمعتقل إنسان مبدئي، لديه كرامة وإنسانية وإحساس عميق بالحرية، ورفض مطلق للاستعباد. أما السجان فهو عبدٌ مأمور، باع موقفه بالمال، واستبدل شرفه بالخنوع، وقبل ان يكون عبدًا للطغاة، وباع آخرته بدنيا غيره. هذه قصة العصور والأجيال التي شهدت صراعا محموما وأزليا بين الأحرار والعبيد. وهي قصة تتجلى بعض مشاهدها في سجون البحرين التي توالت عليها قوافل الأحرار منذ أكثر من نصف قرن، فأصبحت مدارس لتخريج الأبطال وصناعة العمالقة. فما فعله المعتقلون السياسيون مؤخرا من احتجاج وطرح مطالب عادلة ثم إضراب عن الطعام كان طعنة شديدة في خاصرة نظام الظلم الخليفي المقيت. فيوما بعد يوم ظهرت تفصيلات القمع والتنكيل والتعذيب من أفواه الضحايا وذويهم، وكان للأمهات دورهن في كشف الحقائق وتعبئة الرأي العام في داخل البلاد وخارجها ضد الاستبداد الذي تدعمه دول الغرب وتسنده الدولارات النفطية السعودية والإماراتية. ولكن ثبات المظلومين على مطالبهم ومواقفه ومواصلة إضرابهم برغم حرارة الطقس وقمع الجلادين قصم ظهر الطاغية الخليفي وعصابته وأفشل مشروعهم التضليلي، فإذا بشعب البحرين يحظى باحترام العالم وتعاطف الأحرار.
بعد 36 يوما من الإضراب عن الطعام أرغم الخليفيون على شرب كأس السم ورضخوا لمطالب السجناء السياسيين، وقدموا وعودا بتنفيذها ومنها تمديد وقت الخروج من الزنزانات إلى الفضاء العام، وتوفير الرعاية الصحية التي تلكأوا سنوات في تقديمها حتى استشهد بعض السجناء واصيب البعض الآخر بعاهات، وإزالة الحواجز الزجاجية التي تحجب السجناء عن أهلهم خلال الزيارة. فلم يستطع الأب مصافحتهم او تقبيلهم او احتضان أطفالهم. لقد كانت معاناة قاسية استمرت طويلا وكانت بحق أمرا مخزيا يضاف الى الجرائم ضد الانسانية التي ارتكبتها العصابة الخليفية الظالمة.
ويمكن القول أن الحواجز الزجاجية من أبشع أساليب التنكيل، وقد أصبحت سمة للحكم الخليفي الذي اعتاد بناء الحواجز كما فعل الصهاينة الذين شيدوا جدارا في القدس لخدمة مشروع الفصل العنصري. ألم يبن الخليفيون جدارا عازلا في منطقة المالكية قبل خمسة عشر عاما؟ يومها وقف الأحرار وفي مقدمتهم الدكتور عبد الجليل السنكيس لهدم ذلك الجدار، فبدأوا بإحداث ثقوب فيه ثم أجهزوا عليه بالتكسير وأفشلوا مشروع العزل الخليفي المقيت. لقد اعتادوا بناء الحواجز المادية والنفسية في البلاد. فبدأوا بعزل أنفسهم عن الشعب بالاستيطان في مناطق خاصة بهم وأسسوا بذلك انفصالهم الكامل عن الشعب البحراني الأصلي (شيعة وسنة). واتخذوا من الرفاع منطقة خاصة بإقامتهم، ورفضوا الانخراط في صفوف الشعب، سواء بالتزاور او التزاوج. وبقيت هذه الممارسة حتى الآن، بسبب شعورهم بالاستعلاء والاستكبار. وإمعانا في الانعزال عن الشعب أصبحوا يستخدمون مطارا خاصا بهم في جنوب البلاد ضمن قاعدة الشيخ عيسى الجوية لأسطولهم الخاص من الطائرات، وعلى رأسها طائرتان من نوع جامبو خاصتان بهم. فهل هناك أسوا من هذه العصابة التي تنهب أموال الشعب وتنفقها على حياتهم الباذخة في الوقت الذي يعيش الشعب فيه أوضاع اقتصادية ضاغطة خصوصا مع ارتفاع الأسعار.
السجناء السياسيون المضربون على الطعام أوقفوا إضرابهم بعد أن وعدهم الخليفيون بتنفيذ مطالبهم، ونظرا لمعرفتهم بالغدر الخليفي المتكرر فقد حددوا 27 سبتمبر موعدا للعودة للإضراب إن لم يتم الوفاء بالوعود. ومن المتوقع ان يبدأ الطاغية وعصابته بالتلاعب وبث الخلافات داخل السجن لمنع تبلور موقف موحّد حول العودة للإضراب. ولكن يجدر التأكيد على حقيقة مهمة مفادها أن السجناء الذين قضى الكثيرون منهم أكثر من اثني عشر عاما وراء القضبان وعانوا خلالها أصناف التنكيل والتعذيب أصبحوا أشد ثباتا على خطهم وأعمق كرها للنظام الخليفي، وأكثر وعيا بحقيقته ومكره وإجرامه. ومع ثبات العائلات والأهل على خط مقاومة المحتل الخليفي وداعميه، فسوف يجد الطاغية مهمته صعبة للغاية. مشكلته أنه لن يقبل بالهزيمة السياسية والأخلاقية التي مني بها بسبب الإضراب، ولذلك سيسعى بكل إمكاناته لاستعادة كرامته المهدورة وكبريائه المكسور. لذلك فالمتوقع استمرار المناكفات والمواجهات بين الطرفين الأساسيين في معركة الوجود المحتدمة على أرض البحرين بين الخليفيين والبحرانيين. وهي منازلة تاريخية تعبّر عن نفسها بأساليب شتى، كان إضراب السجناء السياسيين آخرها وأكثرها إضرارا بالهيبة الخليفية. لقد كانت الأسابيع الخمسة التي استغرقها الإضراب صعبة جدا على الوطن والمواطنين، خصوصا مع تواتر الأنباء عن سقوط المضربين بسبب الجوع والإعياء، ولكنها كانت ضرورية لتعميق الوعي الشعبي بحقيقة الحكم الخليفي، فهو عدو للبحرين وشعبها وثقافتها وتاريخها وانتمائها العربي والإسلامي، وهو خائن لقضايا الأمة والوطن وحليف للعدو، وهو فاشي في سياساته وتصرفاته، وهو معاد للإنسانية، سادي في معاملته المعتقلين السياسيين، وهو يمارس ما أسمته لجنة التحقيق المستقلة “التعذيب الممنهج”، وهو نظام يمارس النفاق بأبشع أصنافه، فيتظاهر بتوقيع الاتفاقات الدولية ثم يتفنن في استخدام أساليب تجاوزها وإخفاء ممارساته الإجرامية.
لذلك عجز السجناء السياسون عن تحقيق شيء من مطالبهم بالوسائل المعتادة، ومنها كتابة الرسائل ومخاطبة المسؤولين، بل سعوا للتعاطي مع المؤسسات الخليفية المتسترة بعناوين حقوق الإنسان. وبعد جهود حثيثة ومعاناة لم تتوقف وصلوا إلى نتيجة واحدة: أستحالة تحقق أي من مطالبهم بتلك الأساليب. ففرض سلاح الجوع نفسه عليهم، ووجدوا أنفسهم أمام خيار واحد فحسب، الإضراب عن الطعام. وكان ذلك قرارا صعبا عليهم وعلى عائلاتهم، وعاش الجميع أسابيع مرهقة لأن الإضراب عن الطعام يمثل موتا بطيئا أشد إيلاما من الوفاة السريعة. فكانت الأمهات يبتهلن في جوف الليل لحفظ أبنائهن، وكان السجناء السياسون أنفسهم يواجهون خيارات صعبة كلما سعى الخليفيون لخداعهم بالوعود الكاذبة تارة والتهديدات أخرى. وفي البداية كان عبيد الخليفيين المسؤولون عن السجن يهددون السجناء بالاعتداء ويتوعدونهم بالويل والثبور لأنهم اعتبروا الإضراب تحديا لسلطاتهم. وقد شاء الله أن يدحر أولئك السجانين الذين ظهرت حقيقتهم واضحة بأنهم عبيد مأمورون ينتظرون قرارات القصر الملكي بدون ان يكون لديهم وجود حقيقي او قرار مستقل. كما ظهر أنهم قد انسلخوا من إنسانيتهم، فأصبحوا وحوشا كاسرة لا تحتوي قلوبهم على شيء من الرأفة او الرحمة أو الإنسانية. فقد كانوا طوال السنوات الأثنتي عشرة الماضية يسعون لكسر إرادة البحرانيين المعتقلين بالتعذيب تارة والعزل ثانية والحرمان من التواصل العائلي ثالثة، ومضاعفة العقوبات رابعة. ولكن في نهاية المطاف خسروا المعركة وكانت هزيمتهم ماحقة. فقد صدرت لهم الأوامر برفع الراية البيضاء مستسلمين أمام إرادة البحرين الأبطال. فبسبب جهلهم وتفاهتهم فشلوا في استيعاب حقيقة واضحة: أن البحرانيين لا يزيدهم السجن والتعذيب والتنكيل ومحاولات الإهانة والإذلال إلا إيمانا وثباتا وصلابة وشموخا. كما لم يستوعب أولئك الجلادون أن حرمان السجناء من حقوقهم جعل حياتهم تتعادل مع الموت، فأستسهلوا الجوع الذي قد يؤدي بهم إلى الاستشهاد. لقد عبر هؤلاء الأبطال الامتحان الصعب في حياتهم، فتعمّقت بصائرهم وأصبحوا ينظرون بعين الله، فرأوا الجنة نصب أعينهم، فلم يعد التشبث بالحياة تحت حكم هؤلاء الطغاة خيارا جاذبا لهم، فجاء قرارهم التاريخي بالإضرب عن الطعام. وقد أثبتت تجربة الأسابيع الخمسة صواب هذا القرار الذي جاء بإرادة إلهية تقتضي نصرة المظلومين ودحر الظالمين. لقد خرج أبناء البحرين البررة منتصرين، رافعين هاماتهم، وحققوا نصرا مؤزرا، وأصبحوا أكثر إيمانا بحتمية النصر النهائي المحتوم الذي ضحى الشهداء بأرواحهم لتحقيقه. نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين. فإلى المزيد من الانتصارات بعد هذه الهزيمة الخليفية الماحقة، وهي انتصارات محتومة بوعود إلهية متكررة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
15 سبتمبر 2023