مخاضات سياسية أطلقها “طوفان الأقصى”
مرة أخرى تصبح المنطقة على كف عفريت، وتتداخل الأوراق والمواقف، وتنطلق صرخات ضحايا الحرب من غزة والضفة الغربية مستغيثة بالمجتمع الدولي للضغط من اجل وقف اطلاق النار. ومرة أخرى يفشل العالم الغربي في القيام بواجبه الإنساني، ويضع حساباته المصلحية فوق الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية. فلقد مضى على الحرب بضعة أسابيع ولا يبدو في الأفق نهاية لها. والمشكلة هذه المرة أن الطرف المصر على الاستمرار في القصف اليومي للمناطق السكنية والمستشفيات والمدارس لا يبحث عن “انتصار محدود” بل وضع لنفسه هدفا يستحيل تحققه، وهو إلغاء الطرف الآخر من الوجود، معتقدا أن ذلك سينهي القضية الفلسطينية التي تمردت على محاولات التصفية مرارا منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين قبل ثلاثة أرباع القرن. فليس أمرا سهلا استئصال أهل الأرض من تربتهم، مهما توفر من أسباب القوة لدى الطرف الاستئصالي. لذلك أصبح الجميع في محنة، وحتى الدول الغربية الداعمة للكيان الاسرائيلي برغم بعدها الجغرافي عن وغى الحرب. فالمصالح متداخلة، والمسافات لم تعد حاجزا فاعلا لمنع توسع دوائر الصراع. أليس هناك حروب شرسة يتم خوضها في ما يسمى “الفضاء السيبراني”. قبل اربعة عقود كانت الادارة الامريكية في عهد الرئيس رونالد ريغان تمارس دورها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، وكان آخر ما تفتقت عنه العقلية العسكرية الأمريكية ما سمي وقتها “حرب النجوم” اي ان الحرب ستخاض بالصواريخ البعيدة المدى وليس على الأرض. ولكن أين تلك الفكرة الآن؟ فما هي الا بضع سنوات حتى كانت القوات الامريكية تنتنشر في صحراء الجزيرة العربية لمواجهة قوات صدام حسين التي كانت قد اجتاحت الكويت في 2 اغسطس 1990.
الحرب هذه المرة ليست ضد الفلسطينيين وحدهم بل على الشعوب العربية كلها. والمشاركون في الحرب ليس الصهاينة فحسب بل كافة القوى الرجعية في الغرب وفي المنطقة. والعدو هذه المرة ليس المجموعات الفلسطينية التي تطرح للاستهداف المباشر بل هي كافة القوى التي تتطلع للحرية والانفكاك من الهيمنة الأجنبية، والمتطلعة لقدر من الحرية يحقق لها إنسانيتها. ولذلك هناك سباق بين دعاة الحرب الشاملة وبعض العقلاء الذين يسعون لمنع اندلاعها خوفا من خروجها عن السيطرة وتوسع رقعتها وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة. في هذا الخضم تبدو القوات الاسرائيلية متجهة لحرق الأخضر واليابس من أجل اقتلاع قوات المقاومة الفلسطينية خصوصا منظمة حماس التي اخترقت في السابع من اكتوبر الحدود وقتلت مئات الاسرائيليين واحتجزت المئات منهم. كانت تلك الحادثة خارج المعقول والمتوقع، فبعد حوادث 11 سبتمبر في العام 2001 ساد الاعتقاد بأن دائرة الإرهاب سوف تضيق وتضمحل، خصوصا أن أمريكا نشرت قواتها في كافة اصقاع الأرض ووجهت استراتيجيتها العسكرية لما تسميه “مكافحة الارهاب”. وعلى مدى العقدين الأخيرين استثمرت كثيرا في هذا المجال، ورفضت ان يكون هناك منافس لها في العالم.
جاءت الأزمة الحالية لتضع نهاية للحلم الغربي بانتهاء عهد الارهاب والصراعات العابرة للحدود. وربما لم يعتقد الكثيرون أن التحدي الجديد سوف ينطلق من الأراضي الفلسطينية التي اعتبرت قضيتها شبه منتهية في ظل قوة إسرائيلية عسكرية ضاربة، ومحاولات حثيثة للولوج الى “عالم سلام” لإكمال المشاوير التي بدأت قبل ثلاثة عقود في أوسلو ومدريد. كان الجميع يدرك صعوبة مشوار التسوية لأسباب من بينها نشوء عقيدة سياسية لدى قطاعات فلسطينية واسعة بضرورة التحرير الكامل للأراضي المحتلة، وصعود اليمين المتطرف في الكيان الإسرائيلي، والرفض الإسرائيلي المتواصل لفكرة الدولة الفلسطينية، وتطور العلاقات بين “إسرائيل” وبعض الدول العربية، خصوصا بعد ان طبّعت خمس دول مع الاحتلال: مصر والأردن والمغرب والإمارات والبحرين. كان ذلك كله مخاضات عسيرة أقنعت البعض بصعوبة استمرار مشوار التسوية، وبموازاته استحالة حدوث ما ليس في الحسبان على المستوى الميداني. ولكن ما حدث في السابع من اكتوبر غيّر الكثير من تلك القناعات التي ربما اعتبرها البعض “ثوابت”، وأصبح على العالم البدء من جديد للبحث عن مخارج من الآزمة التي هي الأصعب منذ قيام نظام الاحتلال. ولا يقل أهمية عن ذلك تداخل السياسي الاقليمي بالدولي، وتراجع مشاريع التطوير السياسي في العالم العربي، وتجاهل الغرب المطالبة بالحرية والديمقراطية في المنطقة العربية.
هذه المرة كشف بعض الحكام وجوههم الحقيقية ولم يترددوا عن إعلان تضامنهم مع كيان الاحتلال والوقوف بوجه قوى المقاومة. والعائلة الخليفية في البحرين كانت في مقدمة الداعمين للعدوان الإسرائيلي. هذا في الوقت الذي لم يتردد البحرانيون لحظة عن إعلان دعمهم الشعب الفلسطيني في محنته ورفض العدوان الإسرائيلي. وهناك حكومات اخرى اعلنت مواقف مشابهة ومنها حكومة الإمارات التي نظمت حملات إغاثة إلى تل أبيب. ويُعتقد وجود تنسيق بين هذه الانظمة بهدف استئصال كافة تجليات الإسلام السياسي من جهة والمنظمات المعارضة من جهة أخرى. فالملاحظ ان استهداف هذه المجموعات كان شاملا وما يزال يشدد القبضة على الاوضاع الامنية في البلدان العربية بشكل غير مسبوق. ويكفي إلقاء نظرة على الخريطة السياسية العامة في بعض الدول العربية ليتضح شراسة الاستهداف. فمن مصر إلى تونس والبحرين يرزح رموز الحركات الإسلامية والمعارضون في السجون بدون ان يرتكب أحد منهم جرما يستدعي الاعتقال والتنكيل. فرموز الشعب البحراني مثلا قضوا حتى الآن ثلاثة عشر عاما وراء القضبان لانهم طالبوا في خضم الربيع العربي بإصلاحات سياسية جادة. وبعض هؤلاء في عمر متقدم ويعاني امراضا شتى.ٍ إنها ظاهرة تؤكد عمق العداء الخليفي للشعب البحراني، على غرار العداء الإسرائيلي لأهل فلسطين. إنه وضع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ولا بد ان يصل إلى نهاية مختلفة يتحقق فيها الانسجام بين الحكم والشعب.
منذ ثلاثة أرباع القرن كان هناك ما يشبه الوئام بين حكام الدول العربية وشعوبها إزاء قضية فلسطين، قبل ان يقرر بعض الحكام كسر الإجماع العربي بالهرولة نحو الإسرائيليين. هؤلاء الحكام مأزومون في بلدانهم ويظنون أن كيان الاحتلال قادر على توفير قدر من الأمن لأنظمة حكمهم. وثمة رهان متواصل على توسيع دائرة التطبيع مع “إسرائيل” وكسر التوافق العربي على المقاومة. وفات أصحاب هذا الراي ان الحسابات الأساسية لواقع الاحتلال الإسرائيلي لا تدعم استمرار بقائه. فطالما كان هناك شعب مشرد من وطنه، محروم من حقوقه، مغلوب على أمره، فإن الخيارات السياسية المتاحة تتضاءل، حتى لا يبقى منها سوى تلبية مطالب ذلك الشعب. ولكن ذلك ايضا مشرو ط بوجود رفض شعبي للطرف الآخر. وفي الوضع الفلسطيني أصبح هذا واضحا منذ عقود. فبرغم الاستثمار السياسي الأمريكي في المشروع الصهيوني والمراهنة على تطبيع علاقاته مع الحكومات العربية، ما يزال المشوار إلى ذلك طويلا. فكلما حدث اختراق للإجماع العربي، حدث بموازاة ذلك حوادث خارج سياق المألوف سرعان ما تعيد الأمور إلى نصابها. وهذا ما حدث هذه المرة بعد ان اعتقد الصهاينة أنهم استطاعوا إيصال القضية الى حافة الحل، وابتهجوا بالتطبيع مع خمس دول عربية. لكن ذلك التطور كان محدودا، وسرعان ما جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتقضي على أي احتمال للمساومة مع المحتل او التخلي عن الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني. وما أروع هذا الشعب في صلابته وصموده ونضاله وتحمله التضحيات. لذلك يمكن القول ان ما حدث الشهر الماضي كفيل بتحقيق امور عديدة: أولها قطع الطريق على التسويات الهزيلة التي كانت دائما لصالح “إسرائيل”. ثانيا تعمق الإيمان بإمكان تحقق الحل الشامل وتحرير أرض فلسطين، ثالثا: أن كيان الاحتلال أثبت هشاشته للعالم وأدرك أفراده عدم وجود ضمانات لعيشهم السلمي في أرض فلسطين. رابعا: أن الشعوب العربية تشعر بقدر من الأمل بإمكان التغيير الذي كانت “إسرائيل” تحول دون تحققه دائما. هذه المرة. ولذلك يتوقع انتفاضات شعبية عديدة في المستقبل المنظور تسعى لإصلاح الأوضاع السياسية في الدول العربية الأخرى بدون وجود المعوّق الإسرائيلي الذي كان دائما عدوا للشعوب وحقوقها.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
27 أكتوبر 2023