عار على العالم الذي يرفض الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة
يفترض ان تكون مشاهد القتل وما ينجم عنه من إراقة دماء وموت مقززة للنفس الإنسانية، وكذلك مشاهد الدمار الشامل وهدم المباني على رؤوس ساكنيها. كما يفترض ان يكون هذا التقزز دافعا لتبلور رأي عام يطالب بمنع أسباب ذلك. فإن كان الفاعل فردا يلقى القبض عليه، وإن كانت مجموعة من الأفراد تحاصر وتمنع من الاستمرار في جرائمها. ولكن ما العمل حين يكون الفاعل “دولة” يتعامل العالم معها ككيان سياسي تحترم حقوقه وخصوصيته، بل ومنح حصانة خاصة، ويفسر ما يقوم به بأنه “عمل سيادي” من اختصاصات الدولة؟ إذا انحدر العالم الى مستوى الالتزام بالشكليات السياسية التي تتمخض عن كيان “الدولة” او “المجتمع الدولي” او “الأمم المتحدة” ويتم تجاهل مصير ضحايا ما يمارس من عدوان بحقهم، حينئذ تكون الإنسانية قد انسلخت من طبيعتها وأصبحت أسيرة لدى الشكليات السياسية المفروضة عليها. وهذا مصير لا يمكن قبوله من قبل سكان هذا الكوكب. فحين تغيب العدالة عن الممارسات سواء على المستوى الفردي ام على صعيد العمل الدولي فان الظروف تتهيأ للتوترات والاضطرابات وربما الثورات. أليس غياب العدالة عن الشأن الفلسطيني أحد أسباب استمرار الصراع ثلاثة أرباع القرن؟ ألم يتضح للعالم بعد ان القوة العسكرية المفرطة لا تحسم الصراعات؟
إن ما يجري في غزة منذ خمسة أسابيع لم يعد تجسيدا لخلاف سياسي بين طرفين، او نزاع مسلح محكوم بالذوق والأخلاق والقانون. فإذا كان في بداياته انتقاما لما حدث في 7 أكتوبر، فإن ذلك الانتقام تجاوز الحدود المعقولة وتحوّل إلى حرب يعتبرها الطرف الأقوى “وجودية”. أي إن “إسرائيل” تحاول الإيجاء للعالم بأن الوجود الفلسطيني يتناقض مع وجود كيانها، وبالتالي فلكي تبقى لا بد من اقتلاع هذا الوجود في شقه الإنساني، بعد ان اقتلعت إطاره السياسي واحتلت أرضه وحوّلته إلى شعب بلا أرض. لم يحدث ذلك إلا بارتكاب جرائم يمكن تصنيف بعضها ضمن ما اصطلح عالميا على تسميته “إبادة”. فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن، تعرّض الفلسطينيون لكافة أصناف القتل والتنكيل والتشريد بعد ان احتلت أرضهم أمام مرآى العالم ومسمعه. بل أن الأمم المتحدة منحت الكيان الذي تشكل على أرض فلسطين شرعية، واعتبرته “دولة” ذات سيادة وتمارس دورا دوليا توسع تدريجيا. بل أن السياسات الغربية سعت لصهر هذا الكيان ضمن مكونات الشرق الأوسط، ومهّدت الطريق للاعتراف التدريجي بوجوده من قبل القوى التي كانت ترفض ذلك إلى وقت قريب. بل ذهب الضغط الغربي الى مستويات أبعد عندما دفعت امريكا وبريطانيا حلفاءها الإقليميين للتطبيع مع هذا الكيان المؤسس على أنقاض بلد وشعب ما يزالان يعيشان في ذاكرة الملايين.
ثمة حقيقة جديدة – قديمة بأن استمرار الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وفر للشعوب المظلومة سببا للاستمرار في التمرد والثورة. وفي العالم العربي على وجه ا لخصوص، تضاعف الغضب الشعبي تجاه الأنظمة السياسية الحاكمة لأسباب ثلاثة: أولها الاستبداد المتواصل الذي تمارسه هذه الانظمة، وثانيها غياب خطط التنمية الاقتصادية والبشرية، وثالثها تخاذل هذه الانظمة إزاء القضية المحورية في العالمين العربي والإسلامي، وهي قضية فلسطين. ولذلك سعت هذه الانظمة لإنهاء هذه القضية من أجل إطفاء شعلة الثورة المتقدة في أوساط الشعوب ا لعربية والإسلامية. ويمثل النضال من أجل فلسطين معيارا لتقدم الأنظمة السياسية أو تخلفها. فالروح الثورية لا تنمو إلا في ظل أنظمة سياسية منفتحة وثورية ومتصلة بالجماهير. أما الأنظمة الرجعية فهي أكثر ارتباطا بالنظام السياسي الغربي الذي يوفر لها الدعم الأمني والعسكري. ولذلك تنتشر القواعد الأمريكية في المنطقة، وترى الأنظمة فيها سببا للشعور بقدر من الأمن، بمعنى أن القوات الأمريكية لن تسمح بتغييرها، وسوف تتصدى للثورات الهادفة لذلك التغيير. فالحفاظ على الوضع الراهن يمثل جوهر السياسة الغربية في المنطقة، وهذا الوضع الراهن هو الذي يوفّر للاحتلال الإسرائيلي ظروف الأمن والاستقرار، لأن الأنظمة العربية الاستبدادية أصبحت ضامنة للاحتلال الإسرائيلي وأمنه. وقد أكد هذه الحقيقة ما فعلته حكومتا الإمارات والبحرين في الأيام التي أعقبت حوادث 7 أكتوبر، إذ قامت بإرسال المعونات للكيان وأعلنت الحكومتان عن تضامنهما معه، ولم يتم سحب السفراء حتى بعد أن شنت “إسرائيل” عدوانها على غزة.
من هنا أصبح النضال ضد الاحتلال مكمّلا للنضال ضد الاستبداد، وهذا يتضح من التلاحم الواضح بين قوى المعارضة العربية الحرّة والشعب الفلسطيني، وعداءها العميق للاحتلال. ويدرك الإسرائيليون هذه الحقيقة، ولذلك لا يخفون دعمهم للأنظمة وعداءهم للشعوب. هذه الحقائق قديمة تتجدد مع التطورات وتتضح ملامحها أكثر في حالات المواجهة والنزاع العسكري كما هو عليه الوضع الحاضر. فبالاضافة لاحتلال أرض فلسطين وتحويل أرض المعراج إلى وطن للأجانب الذين يستقدمون من أصقاع الأرض، يمارس المحتلون دور الداعم الأقوى للاستبداد والديكتاتورية، لعلمه أن الشعوب الحرّة التي تملك قرارها لا يمكن أن تقر الاحتلال. وهذا يتضح من مواقف الدول العربية نفسها. فحكومة الكويت مثلا التزمت موقفا مختلفا تماما عن مواقف الدول الخليجية الأخرى خصوصا البحرين، رافضة الاحتلال وداعمة الشعب الفلسطيني، ومطالبة ا لمجتمع الدولي بإجراءات ضد المحتلين. بينما الخليفيون لم يخفوا دعمهم للمحتلين وعداءهم لقوى المقاومة الهادفة لتحرير الأرض منهم. إنها دوامة من المواقف المتباينة التي ترتبط بالوضع السياسي العام في كل بلد. فالبلدان ذات الممارسة الديمقراطية الواسعة او المحدودة لا تستطيع دعم الاحتلال. هذا واضح في الكويت مثلا، كما هو واضح في البلدان الغربية. صحيح ان حكومات الغرب عموما تساير الامريكيين وتدعم “إسرائيل” ولكن شعوبها تنطلق من شعورها بالحرية لتنطلق في فضائها وتعلن مساندتها الشعب الفلسطيني بقوة. في هذه البلدان هناك تنافس حاد بين الأطراف الداعمة لفلسطين، وهي الأكثر، والتوجهات الحكومية لدعم “إسرائيل”. فالدعم الشعبي لفلسطين حقيقة واضحة في أغلب بلدان العالم، تعبّر عنه التظاهرات العملاقة التي تفرض نفسها على السياسيين. ففي بريطانيا مثلا هناك إصرار شعبي على تسيير المظاهرات ا لداعمة للفلسطينيين، برغم موقف وزيرة الداخلية التي تسعى لمنع تلك التظاهرات، ولكنها لا تستطيع ذلك. وليس مستبعدا طرد الوزيرة من منصبها بعد ان تحدّت الشرطة وحاولت التدخل في اختصاصاتهم.
من هنا تبذل الجهود لوضع حد للعدوان الإسرائيلي لأسباب عديدة: أولها فشله في تحقيق هدفه المعلن وهو اجتثاث مجموعات المقاومة، برغم مرور خمسة أسابيع من العدوان الشرس الذي لم استهداف البشر والحجر. ثانيها: أنه تحول إلى عبء سياسي على الحكومات الغربية التي تواجه مواقف شعبية تدعم فلسطين بشكل واضح. فاستمرار المناكفات بين السياسيين وأجهزة الأمن والشرطة ووسائل الإعلام ليست حالة صحية ومن شأنها أن تخلق شرخا في الصف السياسي الذي طالما تباهى بتماسكه وتوافقه. ثالثها: مبالغة الإسرائيليين في الانتقام من الفلسطينيين، فقد تجاوز عدد الضحايا عشرة آلاف شخص، يمثل الأطفال حوالي نصفهم، الأمر الذي أصبح يتحدى الضمير الإنساني. رابعها: شعور الغربيين بما يمثله نتنياهو وذوو الاتجاهات اليمينية المتطرفة من تحد للقيم الإنسانية وتجاوز الحدود المعقولة للنزاع ا لمسلح، الأمر الذي يقتضي وضع حد لهذه الحالة التي تتحدى المجتمع الدولي برمّته.
الأمر المؤكد أن الفلسطينيين تحمّلوا العناء الشديد ولكنهم استطاعوا ا لصبر والصمود برغم خذلان الناصر، وأصبحوا قوة يعتد بها ورقما سياسيا لا يمكن تجاوزه بأي شكل. والأمل أن تبادر حكومات العالم لوقف إطلاق النار فورا لوقف إبادة سكان غزة والحفاظ على ما تبقى من البنية التحتية لهذه المنطقة المنكوبة.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
10 نوفمبر 2023