مؤتمر المناخ 28 في الإمارات: طموح سياسي بغطاء بيئي
في عالم يتنكر للعدالة ويتجاهل القمع الممنهج لحقوق الإنسان، ويرخي عنانه للجري وراء المصالح المادية البحتة، لا يمكن التعويل على الانظمة السياسية للدفاع عن المظلومين مهما كانت بشاعة ظلاماتهم. وحين يتوجه الزعماء والمسؤولون الكبار لحضور مؤتمر المناخ “كوب28” الذي افتتح يوم الخميس ويستمر قرابة الأسبوعين، سيجد حاكم أبوظبي المطلق نفسه محاطا بالزعماء الآخرين، ومن بينهم رموز كبيرة من دول “العالم الحر”. هؤلاء لن تكون أولويتهم البحث الجاد عن حماية المناخ الذي اجتمعوا للتداول بشأنه، ولا حقوق الإنسان في البلد المضيّف الذي تضم سجونه العشرات من سجناء الرأي الذين اعتقلوا بسبب رأيهم ومواقفهم ومطالبتهم بالإصلاح السياسي. ويمكن الادّعاء أن أولويتهم تمهيد الطريق لصفقات تجارية وربما عسكرية كبرى مع دولة الإمارات، ولذلك سيسعون جاهدين لتفادي ما يزعجه أو يثير غضبه. فهم يعلمون إن إثارة قضايا المعتقلين السياسيين مثل المحامي الحقوقي أحمد منصور ومحمد الركن مسألة حساسة جدّا لا يطيق محمد بن زايد سماعها. فهو الحاكم المطلق الذي أعطى نفسه حق التصرف في المليارات من ممتلكات البلاد ويستطيع استخدامها لدعم موقعه السياسي وحماية حكم قبيلته من التدخلات الخارجية. فحين تقرر الإمارات شراء حصة من محطة سايزويل سي النووية في بريطانيا، فإنه يستخدم المال للتأثير على القرار السياسي البريطاني على الأقل في ما يرتبط بحقوق الإنسان. محمد بن زايد يرى نفسه اليوم الزعيم العربي الأقوى الذي يستطيع التأثير على المسارات السياسية في العديد من البلدان العربية، ومن ضمنها مصر.
لذلك سيكون مؤتمر البيئة محطة على طريق تكريس حكم آل نهيان وإحكام القبضة الحديدية في بلد لم يعرف الحرية يوما. فتطلعات ابن زايد لا تحدها حدود. فبعد إحكامه السيطرة المطلقة على مواطنيه وتكميم الأفواه واعتقال الناشطين والمنتقدين، أصبح يتطلع لبسط نفوذه خارج الحدود، مستغلا أموال الشعب لشراء ذلك النفوذ. وقد أصبح اسم منصور بن زايد، شقيق حاكم أبوظبي، متداولا في الأوساط التجارية، فبين يديه أكثر من 200 مليار بعنوان “الاستثمار”، ولكنها في الحقيقة تستخدم لشراء مواقف الدول الأخرى. وفي عهد الرئيس السابق للإمارات وحاكم أبوظبي، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، لم تكن سياسة الإمارات تحتوي على عنصر التوسع وشراء النفوذ والمواقف. ويمكن الإشارة إلى أن التدخل العسكري الإماراتي بجانب التدخل السعودي في عدد من الدول العربية خلال الخمس عشرة عاما الأخيرة فتح شهية الإمارات للتدخل والتوسع وبسط النفوذ. ففي العام 2011 بعثت الإمارات قواتها إلى البحرين للمشاركة في قمع ثورة الشعب. وكان للإمارات دور في التحريض على جماعة الإخوان المسلمين في العديد من الدول مثل مصر وسوريا والسودان. وأصبحت تموّل بعض المجموعات المسلحة في ليبيا والصومال وسوريا. أما دورها في العدوان على اليمن في مارس 2015 فقد كان مكشوفا. وبرغم اخفاقاتها العسكرية وقتل العشرات من جنودها ما تزال تطمح في الاحتفاظ بنفوذ في ذلك البلد. فقد سيطرت على جزيرة سوقطرة، ودعمت الانفصاليين في الجنوب اليمني. ولولا شجاعة اليمنيين وفي مقدمتهم جماعة “أنصار الله” لبقيت اليمن مقسمة بين الاحتلالين السعودي والإماراتي.
ومنذ أكثر من ربع قرن سعت حكومة أبوظبي لشراء صمت الغربيين بالاستثمار في بلدانهم. فقاموا ببناء ملعب نادي أرسنال في لندن وأطلقوا عليه “أستاد الإمارات”، وموّلوا شبكة من القاطرات المحمولة على الأسلاك كوسيلة لعبور نهر التايمز، وأصبحوا الآن يتداولون في الاستثمار بصحيفة “الديلي تلغراف”. ومن المؤكد ان هذه الاستثمارات العملاقة تساهم في توجيه السياسات الخارجية للدول مثل بريطانيا. فبرغم الصرخات التي ارتفعت في الأسابيع الأخيرة مطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين بمناسبة انعقاد قمة المناخ 28 فمن غير المتوقع أن يطرح زعماء الدول المشاركة هذه القضية او يناقشوها مع المسؤولين الإماراتيين. وتسعى الإمارات لاستغلال إمكاناتها المالية لجعل المؤتمر حدثا عملاقا لكي يوفر لها مكانة دولية ويقوّي وضعها الإقليمي، ويحولها من دولة حديثة التكوين تتألف من سبع مشيخات صغيرة إلى دولة إقليمية تنافس الدول الإقليمية الأخرى التي تفوقها عراقة ومساحة وحجما مثل إيران والعراق وحتى السعودية. وهذا المسار اعتورته صعوبات كبيرة، ومنها تحسس السعودية وسلطنة عمان من توسع النفوذ الإماراتي الذي أصبح ينافس الدور السعودي ويهدد أمن سلطنة عمان واستقرارها. وثمة خشية من صراعات إقليمية مستقبلية خصوصا في شرق العالم العربي حيث التنافس على الموقع والنفوذ والسيطرة على الممرات المائية. وكانت الإمارات تأمل ان تؤدي الحرب التي شاركت فيها على اليمن إلى وضع آخر مختلف عما آلت إليه، وأن تجد الإمارات مجالا لبسط النفوذ على ممر باب المندب الاستراتيجي. ولكن صمود اليمنيين حرم الإمارات من ذلك وقلّص هيبتها، كما ساهم في تحجيم الدور السعودي الإقليمي.
وثمة ظاهرة تتوسع بشكل مضطرد، وهي حدوث حالة استقطاب واضحة في الفضاء السياسي العربي. فمن جهة تقف الحكومات مدعومة من قبل الإمارات بوجه الشعوب بشراسة ووحشية كما حدث في مصر والبحرين خلال الربيع العربي، ومن جهة أخرى تشجع الإمارات بقية الانظمة العربية على التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وقد جرّت حكومة البحرين معها قبل ثلاث سنوات لذلك التطبيع. ومن جهة ثالثة انتهجت الإمارات سياسة العداء المطلق للتوجه الإسلامي والحركات الإسلامية، فهي لا تطيقها أبدا بل تحرّض ضدها بشكل متواصل. لذلك أصبح العالم العربي في الحقبة الأخيرة ساحة للصراعات الداخلية التي لم تتوقف خصوصا بين الحكومات والشعوب، وبموازاة ذلك هرول بعض الدول للتطبيع مع الاحتلال والتخلي عن التزامه تجاه فلسطين وشعبها. وهكذا تراجع دور العالم العربي كتحالف سياسي وأيديولوجي، واعتراه الانقسام والتبعية، وفتح بذلك المجال لتوسع النفوذ الإسرائيلي في الشرق الأوسط. وأصبح المال النفطي عنصرا أساسيا في تشكيل الموقع السياسي للأنظمة، ولعب دورا كبيرا في إعادة تموضع بعضها. فما تزال السعودية تطمح في ممارسة نفوذ إقليمي واسع من خلال مجلس التعاون الذي تراجع دوره بسبب التنافس بين دوله. وليس مستبعد ان يكون توجهها لتحسين العلاقات مع إيران محاولة للحد من الجموح الإماراتي. فلدى محمد بن زايد رغبة في توسيع نفوذه إلى خارج الحدود، وسيكون لذلك انعكاس على التوازن السياسي في منطقة الخليج، وهذا ما تخشاه السعودية وعمان بشكل خاص.
ومن المؤكد ان عقد مؤتمر البيئة في أبوظبي هذا الأسبوع جزء من خطة التوسع الإماراتي. ولكن نتائج المؤتمر غير مضمونة سواء لجهة الحد من التداعي البيئي ام كسب الموقع الدولي الذي تتطلع الإمارات لتحقيقه. فهي تعلم ان الوفرة المالية لديها انما تحققت من النفط، ولذلك هناك تضارب في سياساتها بين الحد من الإنتاج مراعاة للبيئة أو التشبث بالانتاج وغض الطرف عن التداعي البيئي. وهذا ما يركز عليه نشطاء البيئة الذين يدفعون باتجاه الحد من استخدام الوقود العضوي. وتزعم الإمارات أن استراتيجيتها المناخية تُظهر التزاماً بالمسؤولية البيئية عن طريق إطلاق مشروعات ومبادرات تهدف إلى زيادة استخدام الطاقة النظيفة، وتقليل الانبعاثات الكربونية. وتستخدم الدولة مزيجاً مبتكراً في إنتاج الطاقة الكهربائية، بما يحقق الاكتفاء منها اعتماداً على مصادر نظيفة ومتجددة. ولكنها تقر بأنها أكثر اعتمادا على الغاز لتوليد الطاقة الكهربائية. كما أنها تقوم ببناء مفاعلات نووية ستؤدي للمزيد من التلوث البيئي. وسوف ينتقل التلوث إلى مياه الخليج الملوثة أساسا، وكذلك للطبقات العليا من الجو، الأمر الذي سيساهم ايضا في ارتفاع درجات الحرارة.
وقد سعت الإمارات لتشجيع أكبر عدد من الزعماء لحضور المؤتمر، ولكن هناك اعتبارات عديدة تحول دون ذلك، فالمال وحده ليس العامل الوحيد لجذب الزعماء، بل هناك اعتبارات سياسية أخرى خصوصا بعد ان اتضح تلكؤ العالم عن انتهاج سياسات تقلص من الانبعاث الحراري وتحمي الطبيعة. وسيكشف الاسبوعان المقبلان مدى جدّيّة الزعماء في احتواء التداعي البيئي، خصوصا أن ملفه ليس ناصعا، وأن المؤتمر السابق الذي عقد في مصر العام الماضي لم يحقق نتائج ملموسة. وبذلك ستكون سمعة الإمارات نفسها على المحك.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
1 ديسمبر 2023