مع شهداء الإعدام في ذكراهم: وقفة من أجل الحق
إنا شعب لا ننسى شهداءنا. هذا أحد الشعارات التي أطلقها ثوار البحرين في ذروة انتفاضتهم المباركة. يومها كان الشهداء يرتقون الى ربهم تباعا، ملطخين بدم الشهادة، مقتولين بأيدي العصابة الخليفية المجرمة التي ولغت في دماء الشعب بدون رحمة. وكان من نتيجة ذلك أن غسلوا أيديهم من التعايش مع الشعب، وأدركوا أن يوم عقاب تلك الطغمة لن يتأخر كثيرا. وبسبب تفكير رموز الحكم المنحرف، اتخذوا طريقا آخر طمعا في السلامة، فتحالفوا مع الصهاينة على أمل أن يحموهم من غضب الشعب. وحيث أن أرواح الشهداء تطاردهم، أصبحوا يخافونهم بعد أن فارقوا الدنيا أكثر من خوفهم إياهم وهم على قيد الحياة. وستظل أشباحهم تلوح في قصور الطغاة والسفاحين لتحرمهم من الأمن والسعادة. ربما يسعى هؤلاء الطغاة للتظاهر بعدم الاكتراث بما تركه الشهداء وراءهم من تراث ثوري يحرّك الجماهير على طريق الثورة، ولكنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن من رفع سيفا قتل به، وأن القاتل سينال جزاءه، وأن قتل المؤمنين من أكبر الآثام: “ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم وغضب الله عليه ولعنه وأعد لهم عذابا عظيما.” ولا يمكن ان يكون طاغية البحرين شاذا عن هذه القاعدة الإلهية، بل سيكون مصيره الوقوف أمام محكمة العدل الإلهية لتصدر حكمها بحقه وينال جزاءه الوافي لما اقترفه من جرائم وآثام. هذا وعد الله وهو وعد غير مكذوب.
أما الشعب فيرى في شهدائه عنوان وجوده، فهم الذين أوضحوا له بشهادتهم معنى الحياة، وهم الذين يأبون التخلي عن الوطن والشعب، فتبقى أرواحهم ترفرف في الأجواء كالمصابيح التي يهتدي بها السائرون على خطاهم. لذلك لم تتوقف الثورة يوما ولن تتوقف. وكلما تصاعدت أعداد الشهداء تعمّقت المشاعر بحتمية النصر. في مطلع الشهر أحيا المواطنون ذكرى استشهاد الشهيد نمر النمر الذي قتله السعوديون ظلما وجورا بسبب تصريحاته ومواقفه وارتباطه بثورة البحرين. وفي منتصف الشهر مرت الذكرى السابعة لاستشهاد الأقمار الثلاثة: سامي مشيمع وعباس السميع وعلي السنكيس. أرواح هؤلاء الثلاثة صعدت بعد أن أطلق سفاحو الخليفيين أربع رصاصات لصدر كل منهم. فاهتزت الأرض وارتفع الهتاف في السماء: هيهات منا الذلة. ظن القتلة حينها أن الإعدام سوف يكسر إرادة النضال لدى جيل الثورة المصرّ على التغيير، وأنه سوف يحطّم إرادة النضال لدى شبابه، ولكنه فوجيء بالتحدي والصمود والإصرار على مواجهة الظلم الخليفي بدون حدود. فجن جنون الطاغية، وأمر جلاوزته بتسليم ثياب الشهداء المطلخة بالدماء إلى ذويهم لكي يتخلوا عن النضال والكفاح. فنفّذ القتلة ما أراد. فكان موقف الأمهات المفجوعات المزيد من الفخر والاعتزاز. تذكرن حينها موقف والدة الشهيد علي المؤمن قبل ستة اعوام عندما قالت: ما رأيت إلا جميلا.
اليوم يحتفي الشعب بذكرى شهدائه بأرواح عالية ونفوس تزداد علوا وشموخا. فقد اتضحت لديهم حقيقة الخليفيين التي غطيت فترة بالمساحيق. فها هو الطاغية يرتكب جريمة كبرى لا تقل إجراما عما ارتكبه عندما أمر بإعدام الشباب الثلاثة. لقد أعلن هذا الطاغية علنا ارتكابه الخيانة العظمى بالاعتراف بالكيان الإسرائيلي والتخلي عن فلسطين وشعبها. فإذا بعبيده يستقبلون محتلي فلسطين وقاتلي أطفال غزة في قصور الرفاع وةالصافرية، ويستقبلونهم استقبال الأبطال الفاتحين، ويضعون بذلك ملحا على جراح الأمهات الفلسطينيات الثاكلات، وما أكثرهن. هنا استيقظ شعب البحرين مرة أخرى لتتعمق قناعته بمواقفه وتضحياته. فهو شعب الشهداء المعطائين، لذلك يستوعب معاناة الشعوب الآخرى التي تناضل من اجل الحرية وتضحي بدماء شهدائها من أجل الحق والكرامة. وعلى مدى المائة عام الأخيرة لم يتردد هذا الشعب عن دعم المناضلين والمظلومين في كل مكان. إنه شعب مؤمن بربه ودينه ولكنه يؤمن أيضا بإنسانيته، وينطلق لدعم من يحتاج للدعم من المظلومين على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية. وحين يتظاهر بقوة من أجل فلسطين وشعبها، فإنه صادق في موقفه، لا يخشى في التعبير عنه لومة لائم، ولا يخيفه إرهاب السلطة التي تحالفت مع أعداء الأمة خصوصا محتلي فلسطين.
الشهداء في البحرين لهم مقام رفيع لدى المواطنين، بالإضافة لمكانتهم عند الله. فهم أحياء يرزقون عند ربهم، وهم أحياء أيضا في أوطانهم وبين شعوبهم. هذا الاهتمام الشعبي بهم لا يتراجع او يضعف، بل يزداد ثباتا مع مرور الزمن. فقد أصبح عيد الشهداء يوما مشهودا في تاريخ الوطن والشعب، يتم إحياؤه بما يليق بمقام الشهداء ويحقق معنى السير على خطاهم. فتخرج المظاهرات والاحتجاجات وترتفع الشعارات المطالبة بالحرية والكرامة والرافضة للاستبداد والقمع. وكثيرا ما استشهد المتظاهرون في هذه الاحتجاجات، لأن نظام الحكم الخليفي لا يعترف بقيم الحرية وحق الإنسان في التعبير السلمي عن موقفه، ولذلك أقام “مملكة الصمت” التي تهين الإنسان وتحرمه حقوقه الطبيعية وفي مقدمتها الحرية وحق التعبير. مع ذلك استوعب المواطنون معاني الحرية والتضحية والفداء، فهرعوا إلى الميادين في كل فرصة أتيحت لهم. إن الحياة لديهم لا تتحقق معانيها وأهدافها إلا في أجواء الحرية والكرامة، وبدونهما لا يبقى لها معنى. ففقدان الحقوق الطبيعية تعني موت الإنسان وإن كان يتنفس، لأن العيش بدون الحرية موت للإنسانية.
لم يكن شباب البلاد الذين ضحوا بأغلى ما يملكون طائشين او مغامرين. بل كانوا أحرارا بصدق، ملتزمين بتعليمات دينهم وراغبين في السير على خطى أسلافهم الذين حرروا الأمم من أنظمة الطغيان والاستبداد والظلم. وحين اعتقل هؤلاء الشباب أسلموا أمرهم لله واستبسلوا في الموقف وتحدّوا الجلادين. وهذا يؤكده ما تركوه من وصايا مكتوبة او شفوية. فحين التقاهم أهلهم للمرة الأخيرة قبل تنفيذ الإعدام كانوا مطمئنين لموقفهم وراضين بمصيرهم، فكانوا يسعون لإقناع آبائهم وأمهاتهم بالصبر، كما تركوا وصايا أخرى للشعب بمواصلة الدرب الذي سلكوه لتحقيق الحرية وإسقاط نظام الظلم والاستبداد الخليفي. كانت الشهادة أغلى أمانيهم، تقدموا نحوها برضاهم، لعلمهم أنها الطريق لتحرير الشعوب وهزيمة الظالمين. لم يتأفف أي منهم، أو يتضايق مما ينتظره من إعدام. ساروا الى أعواد المشانق ومقاصل الإعدام بقلوب راضية بقدرها، مطمئنة بإيمانها، متطلعة لما عند الله. قرأوا القرآن وأدوا الصلاة وأكثروا الذكر والتسبيح، وتحوّلوا إلى مصادر إلهام وأمل لمن قابلهم في زنزاناتهم، فساهموا عمليا في تثبيت خطى الأبطال والعائلات، ولذلك استمرت الثورة وفشل الخليفيون في إخمادها او إطفاء جذوتها.
ربما أعدم الشهداء في ليال مظلمة، توارت أقمارها خجلا وأسدل الليل ظلامه على البشر، ولكنهم بدّلوا الظلمة بالنور، وأصبحوا مصابيح تنير درب الثائرين ضد الظلم والطغيان. وبقيت ذكراهم تتحدى الزمان وتعبر حدود المكان. فها هم الأحرار يردّدون أسماء الشهداء ابتداء بالشهيد جميل العلي الذي عذبه الخليفيون بوحشية ومزقوا جسده بالكهرباء في مايو 1980، وكريم الحبشي ومحد حسن مدن في الثمانينات، ولم ينسوا شهداء الانتفاضة التسعينية المباركة، بل أصبح الهانيان مصباحين للأحرار. واليوم يستعيد الأحرار ذكريات الشهداء الذين أعدمهم الطاغية وآخرهم أحمد الملالي وعلي العرب. إنه تراث ثوري عملاق، كتبه التاريخ بدمائهم التي لم تجف ولن تجف يوما. وسيبقى ذلك التراث ماثلا في أذهان الأجيال المتعاقبة، تدفعهم للثبات والصمود والنضال والتضحية، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، فيسقط الاستبداد والظلم، وتقوم دولة الحق، وما ذلك على الله بعزيز.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
19 يناير 2024