ثلاثة عشر عاما من الصمود الثوري بوجه الخيانة الخليفية
ثلاثة عشر عاما هي الفترة التي تفصلنا عن اليوم الذي انطلقت فيه ثورة الشعب كأعظم ثورة في تاريخ البلاد، وأطولها وأشجعها وأوضحها من حيث الأهداف. فعندما بدأ المواطنون في 14 فبراير يتوافدون على ميدان اللؤلؤة كانت لديهم آمال مفعمة وتطلعات لا تحدها إلا السماء. يومها كانت الثورات العربية في ذروتها، وقد رفعت هامات الشباب من شرق العالم العربي إلى غربه. وبدت الجماهير وكأنها خرجت من كابوس وطأ صدورها دهورا، فكان التجمع في ذلك الميدان تعبيرا عن شعور عميق بالحرية والخلاص من ذلك الكابوس. الجماهير العربية عاشت ربيعها، وإن كان قصيرا، وبشكل تدريجي تعرّضت للانتقام من قبل تحالف قوى الثورة المضادة الذي لم يوفر أداة قمعية ضد المواطنين العزّل. هذا ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن ثم البحرين. وبرغم ذلك القمع لم تتراجع الشعوب، ولذلك اكتظت المقابر بالشهداء وامتلأت السجون بالمعتقلين السياسيين. وقد تجاوز عدد من تلك الدول محنتها بشكل أو آخر، وبقي بلدان ما يزال شعباهما يعانيان القمع والاستبداد والاضطهاد. فسجون مصر تعج بالأحرار والشرفاء، بعد أن تم إخضاعها بقوة السلاح لحكم عسكري مقيت، أضعفها وأزال هيبتها، وأبعدها عن مركز الصدارة والقيادة للعالم العربي. والبحرين، هي الأخرى، تعرضت لاحتلال غاشم بدأ بعد شهر واحد فحسب من انطلاق ثورتها المظفرة بإذن الله، وخلال هذه الفترة شهدت البلاد من الكوارث البشرية ما لم تشهده طوال العقود الماضية.
قد يقول البعض: وما جدوى سرد تلك الحوادث؟ وهل سيؤدي ذلك لسقوط الحكم الخليفي؟ أم هل سيعيد للشهداء أرواحهم التي سلبها الخليلفيون؟ تساؤلات تنطلق من حناجر البعض، ويساهم الإعلام الشيطاني في بثها وتضخيمها بهدف واحد: ترويج روح اليأس والاستسلام والقبول بالأمر الواقع. ولكنه، في حالة البحرين فحسب، لم ينجح. فحالة المفاصلة بين الطرفين التي حدثت في منتصف شهر مارس 2011، بعد استدعاء القوات السعودية والإماراتية تعمّقت، ولا يستطيع أحد استبدالها بمشاعر القبول والمصالحة. فعندما انطلق الشباب في ثورتهم، كان شعارهم المفضل: الشعب يريد إسقاط النظام. وآلى الشعب على نفسه أن لا يعود الى المرحلة السابقة عندما كان الخليفيون يفرضون عليه أحكام الطواريء منذ عقود، قائلا: مهما صار مهما جرى، الشعب ما يرجع ورا. وقد فعلها الشعب البحراني البطل ورفض التطبيع مع الخليفيين، فتواصلت مسيراته بدون توقف، برغم القمع السلطوي الرهيب الذي أدى لاستشهاد العديد من المواطنين الشباب وراء القضبان، كما استشهد العشرات برصاص أجهزة الأمن الخليفية وبالإعدامات الإجرامية التي كان آخرها في 26 يوليو 2019. فما دام الطاغية وعصابته قد قرروا شكل علاقتهم مع السكان الأصليين (شيعة وسنّة) وأنها ستكون حمراء قانية كلون الدماء التي أريقت ظلما وعدوانا، فلا مجال للتعايش بين الطرفين. ربما تفرض الظروف نفسها على الواقع، فتهدأ حركة الشارع الهادفة للتغيير برهة، ولكن الثمرة الكبرى التي نجمت عن الثورة تعمّق مشاعر الرفض للحكم الخليفي القبلي الاستبدادي.
وقد ساهمت سياسات الحكم الخليفي الجائر طوال الثلاثة عشر عاما الأخيرة في حالة الاستقطاب غير المسبوقة. فكانت أولى خطواته استدعاء الاحتلال السعودي- الإماراتي الذي مارس جرائم بشعة بحق الوطن والمواطنين، وقضت على السيادة الوطنية. هذا القرار الخليفي اعتبره الشعب خيانة كبرى ماحقة، إذ استعان بالأجانب على السكان الأصليين في محاولة لاقتلاعهم والقضاء على هويتهم وتاريخهم. وكان من أولى مهمات المحتلين إزالة الآثار التاريخية التي تؤكد هوية الشعب، فقامت بهدم 40 مسجدا بعضها موغل في القدم، مثل مسجد البربغي الذي دمّرته جرافات المحتلين بدون حياء او خجل أو إنسانية.
وساهم دخول القوات السعودية والإماراتية في القتل والتعذيب بدون حدود. ويكفي النظر الى هامة الشهيد أحمد فرحان المفضوخة لاستيعاب مدى وحشية تلك القوات. كما كان من نتائجه اعتقال الآلاف من المواطنين في مقدمتهم رموز الوطن والشعب الذين مضى على سجنهم حتى الآن ثلاثة عشر عاما بدون رحمة. كما توسعت السجون لتضم عشرات الآلاف من المواطنين الأحرار خصوصا الثوار، وقد قضى أغلبهم فترة الحكم التي صدرت بحقه، وما يزال هناك أكثر من 1300 سجين سياسي. وشهدت البلاد بذلك واحدة من أكثر حقبات تاريخها سوادا واضطهادا وقمعا وشراسة وتوحشا, وكانت الخطوة الثانية فرض أحكام الطواريء التي مورست خلالها ابشع أصناف الاضطهاد والقمع، من قتل وسجن وتشريد وهدم للمساجد. وتصاعدت أساليب القمع السلطوي في ظل الاحتلال بغلق الجمعيات الدينية والسياسية في خطوة وضعت البلاد على قائمة الدول الديكتاتورية ذات السجلات السوداء. وخلال تلك الحقبة تعرض الأطباء والممرّضون للتنكيل والقمع بالسجن والاعتقال والطرد من الوظيفة. وتعرض المدرسون لاضطهاد مماثل. وحتى الرياضيين لم يسلموا من ذلك، فاعتقلوا واضطهدوا وحرموا حق المشاركة في المسابقات الدولية.كما كان للمرأة نصيبها من القمع والاضطهاد، بالقتل والسجن والطرد من الوظيفة. وخلال تلك الحقبة السوداء تمت عسكرة المؤسسات الطبية، فأصبح مستشفى السلمانية الذي يعتبر الأكبر في البلاد إلى ثكنة عسكرية تحت إدارة الاحتلال، وكان مصيدة للأحرار الذين يلجأون له للعلاج عندما يصابون بالشوزن او السلاح الحي الذي يطلقه جنود الاحتلال. وما أكثر الذين فقدوا عينا واحدة على الأقل خلال تلك الفترة، وستبقى العيون المفقوءة شاهدا على وحشية الاحتلال وتواطؤ الخليفيين وظلامة الشعب. ودخلت البلاد بذلك في واحدة من أشد حقباتها التاريخية سوادا.
أما الخطوة الثالثة التي تعتبر قاصمة الظهر فهي التوجه نحو الصهاينة، وذلك بالتطبيع معه في خطوة خيانية لا يمكن التغاضي عنها يوما. فبتلك الخطوة أبعدت العصابة الخليفية البحرين عن دورها الوطني والقومي، وحرمتها شرف المشاركة في الدفاع عن فلسطين، وتنكرت لحقوق الشعب الفلسطيني خصوصا حقه في استرداد أرضه وإقامة دولته المستقلة في فلسطين. هذه الخطوة قطعت آخر الخيوط بين البحرانيين والخليفيين. فمنذ النكبة في العام 1948 وقف البحرانيون مع فلسطين وشعبها، ورفضوا الاحتلال الإسرائيلي واعتبروه عدوا ليس للأمة فحسب، بل للإنسانية. وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن لم يتراجع المواطنون عن موقفهم، فكانت لهم مشاركاتهم في المسيرات المعادية للاحتلال وتبرعاتهم للشعب الفلسطيني، بل شارك بعضهم في الدفاع عن أرض فلسطين بالانخراط في صفوف المقاومة. ولذلك حين جاءت الخطوة الخليفية بالتطبيع مع العدو كان ذلك صدمة غير متوقعة أو مقبولة. ولن يغفر المواطنون لمن خان قضية الأمة او يقبلوا بحكمه، بل يعتبرونه قد انحاز إلى صفوف العدو ولا مجال للتعايش معه ضمن منظومة سياسية واحدة. وبذلك تعمقت المطالبة بإحداث تغيير جوهري في النظام السياسي لإعادة التوازن للبلد الذي نشأ أهله على حب فلسطين وشعبها والعداء للاحتلال كما عادى الاستعمار من قبل وتصدى له.
لا يستطيع المواطنون وهم يحتفون بذكرى تلك الثورة التي أظهرت حقيقة الخليفيين وقطعت علاقة الشعب بهم إلا أن يقفوا إجلالا وتعظيما للشهداء الذين ضحوا بأعز ما يملكون من أجل الحرّيّة والكرامة واستقلال الوطن. فما تزال الذاكرة تحتفظ بمشاهد القمع والاضطهاد الذي لا يشبه سوى ممارسات الاحتلال الصهيوني في فلسطين. لقد حدث تغير جوهري في المعادلة السياسية من جهة وفي الحالة النفسية للشعب من جهة ثانية، وفي ديناميكية علاقات الأطراف المعنية بالأزمة ثالثا. وقد كرر رموز الوطن والشعب أن الوضع لا يمكن أن يعود إلى ما قبل 14 فبراير. ومع إكمال الرموز ثلاثة عشر عاما وراء القضبان أصبح واضحا أنهم ثابتون على مواقفهم ومطالبهم، وأن توحش الخليفيين ساهم في بلورة موقف شعبي ضد تطبيع العلاقة مع من خان الشعب وقام بالتطبيع مع أعدائه وأعداء الأمة. وبهذا اتضحت ملامح العلاقات المستقبلية داخل هذا الوطن المبتلى بالاحتلال من قبل قوى لا ترحم ولا تؤمن بالإنسانية او القيم. وفي الذكرى الثالثة عشرة للثورة اتضح كذلك أن المواطنين ملتزمون بما قدموه من عهد لله والوطن والشهداء بأن لا يكاظّوا على ظلم ظالم أو ظلامة مظلوم، وأن يصمدوا ويستمروا في طريق ذات الشوكة حتى يحدث الله أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حيّ عن بيّنة. لقد أصبح عهد الشهداء ملزما للجميع ولن يتخلى عنه مواطن شريف مهما كانت الظروف والأوضاع. فقد كتب في ذاكرة الزمن بحروف من دمائهم لا تُمحى.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفكّ قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
26 يناير 2024