التسخين والإستعداد النفسي والحركي لإحياء ذكرى الثورة المظفرة
لا أحد يتمنى السجن، فهو قد يصبح نقطة توقف في حياة الإنسان، في نظر الكثيرين، والتوقف هنا محصور بالجانب المادي من الحياة، فالسجين يتوقف عن العمل فلا يتمتع بالراتب وبقية المزايا، والمعتقل قد لا يستطيع مواصلة دراسته، أو يضع خططا لحياته الشخصية، فلا يستطيع بناء منزل مثلا، او يواصل الدراسة. وفي نظر الكثيرين فهذا التوقف يعني تخلف الفرد المعتقل عن أقرانه في الجانب المادي من حياته. ويفوت هؤلاء أن الجوانب الأخرى للإنسان قد تتطور بالسجن، إذا كان واعيا ومدركا لأهمية وجوده داخل محيط ضيق لا يعيش فيه سوى أمثاله من المناضلين الذين يحملون هدفا في الحياة يتمثل بالسعي لتغيير المجتمع والأمة ولا ينحصر بالتغيير الذاتي. ويتحاشى الكثيرون دخول السجن بالامتناع عن القيام بدور سياسي او اجتماعي يعرّضهم لسخط الحاكم المستبد الذي لا يسمح للآخرين بانتقاده او التشكيك في سياساته أو القيام بعمل ميداني كالتظاهر والاحتجاج وكتابة المنشورات قد يؤثر في موقعه، وربما يؤدي إلى سقوط حكمه. كما يسعى البعض لتحاشي الاعتقال تفاديا للمعاملة القاسية التي تنتظرهم بعد الاعتقال. وربما يكون ذلك من أكبر مصادر القلق لدى المواطن العادي الذي يستمع إلى قصص التعذيب والتنكيل فتصيبه الرهبة من ذلك.
أيا كان الأمر، فما أكثر ما تغنى الشعراء والمفكرون بالمعتقلين السياسيين الذين يُسجنون بسبب آرائهم أو مواقفهم. وما أكثر المنظمات المحلية والدولية التي تؤسس لتوفير الدعم النفسي والمعنوي والمادي للمعتقلين السياسيين الذين يطلق عليهم “سجناء رأي”، أي أن اعتقالهم انما هو بسبب رأيهم وليس ارتكابهم مخالفة او جنحة اوجريمة يعاقب القانون عليها. وقد تغنى الشعراء الأحرار بأشخاص اعتقلوا بسبب رأيهم، فأصبح الواحد منهم مثالا للتضحية والفداء والعطاء وتقديم المثل الأعلى للإنسانية. وبرغم أن أغلب المعتقلين لا يكبّل بالحديد إلا في الحالات النادرة، فكثيرا ما يتم تصوير المعتقل السياسي وكأنه يحمل القيود في معصميه، فينعكس ذلك التصور في الثقافة العامة خصوصا الشعر. وتبرز أبيات الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في هذا المجال، حين يقول:
سلامٌ على مثقل بالحديد ويشمخ كالقائد الظافر
كأن الحديد على معصميه مفاتيح مستقبل زاهر
ومن المؤكد أن السجون في العصر الحالي تختلف عنها في العصور السابقة خصوصا القرون الاولى بعد مجيء الإسلام. يومها كان الخلفاء الأمويون والعباسيون يمارسون أبشع الفظاعات بحق المعتقلين السياسيين، خصوصا العلويين منهم، ويتم التفنن في التعذيب الذي لا يمكن وصفه إلا بالسادية والتوحش. مع ذلك فما يحدث في سجون البحرين يصل أحيانا إلى مستوى السادية ويعكس عقلية انتقامية لدى الطغاة الخليفيين، فما أقبح ما فعلوه مع المعتقلين السياسيين البحرانيين خصوصا في الشهور التي سبقت انطلاق الثورة والأعوام الأولى بعدها. فما تزال أساليب التعذيب والتنكيل والإهانة تثير الغضب والتقزز، ومنها الضرب والتعليق واستخدام الأدوات الكهربائية والإجبار على الوقوف ساعات وربما أياما. بل بلغ الأمر ان يتبول الجلاد في أفواه السجناء. هذا بالاضافة للسب والشتم والنيل من عقيدة المعتقل السياسي.
برغم ذلك فقد كان السجن بالنسبة للكثيرين فرصة لتزكية النفس وتطوير الذات، سواء بالعبادة او الدرس الجماعي او الكتابة والتأليف أو تطويع النفس على العيش المتواضع والابتعاد عن المادة والاستهلاك. ويكشف سلوك المعتقلين السياسيين البحرانيين نمطا متقدما من العلو والشهامة والأخلاق. فقد تعمّق إيمانهم بالقضية التي سجنوا من أجلها، وأصبحوا أكثر إصرارا على التغيير لإنهاء الحقبة الخليفية السوداء التي يدفعون ثمنها بسجنهم الطويل والتنكيل بهم بدون رحمة. كما أصبحوا أكثر وعيا بقضايا الأمة، وأنه لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها. ولم يترددوا، وهم في طوامير التعذيب، عن إعلان مواقفهم الداعمة للمظلومين في العالم. وفي بيان أصدروه الأسبوع الماضي من سجن جو، سيء الصيت، أعرب السجناء الأبطال عن تضامنهم الشديد مع القدس والأراضي المقدسة المحيطة بها، معتبرين إياها أمانة إسلامية وإنسانية في الأعناق. وجاء في البيان أن حفظ هذه الأمانة والدفاع عنها يعد رسالة سماوية محمدية، وأن التآمر عليها يعد انفصالاً عن هذه الرسالة السماوية وانتماءً إلى معسكر الاستكبار والظلم. وأشار المعتقلون في بيانهم إلى “أنّ الفطرة الإنسانية السليمة ترفض اصطفاف أهل الباطل في تحالف الشرّ الأخير الموجّه لحماية الصهاينة المجرمين في البحر الأحمر من دفاع أهل الحقّ في زمنٍ قلّت فيه الشهامة والكرامة واستُبدل فيه الدين بالدولار، والمبادئ الحقّة بالزيغ والمصالح الرديئة الضيّقة.” وختم البيان بالدعوة إلى الثبات على القيم الحقة والمبادئ الإنسانية والدينية، وضرورة النضال المستمر من أجل العدالة والحرية، برغم التحديات والضغوط التي يواجهونها خلف القضبان.
هذا البيان يؤكد الحقائق المذكورة عن السجناء الواعين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا. إنه تعبير عن عمق الوعي والمشاعر الإنسانية لدى هؤلاء المظلومين، وبذلك يضعون الشعب أمام مسؤوليته، ويساهمون بذلك في كسر الحواجز المصطنعة بين أبناء الأمة، ويربطون في اللاوعي بين قضيتي فلسطين والبحرين. وبذلك يساهمون في كسر شوكة الباطل والظلم والاستبداد، ويفرضون معادلة جديدة – قديمة في النضال بأن أزمة الأمة واحدة، ونضالها واحد، ومصيرها واحد. كما يثبتون أن الحرّيّة مطلب الشعوب الناهضة من أجلها وأنها حق منحه الله لعباده، فلا يحق لأحد سلبه. وفي الوقت الذي تتضافر فيه جنود أعداء الأمة لكسر إرادتها ومصادرة حقها في الحرّيّة والوجود الكريم، تخترق كلمات الإيمان والصدق جدران السجون لتصك مسامع الزمن، بأن الحرّيّة تعبير عن الشعور العميق بحق الحياة الكريمة التي تحقق عبادة الله بصدق وتدحر الطغاة مهما تفرعنوا. فقد يبالغ الظالم في قمعه وظلمه وشراسته، وقد يعذّب ضحاياه بتوحش وسادية، ولكنه أعجز من كسر شوكة شعب مصمّم على نيل حريته واسترداد حقوقه. هذا الشعب لم تدخل نفسه ذرة من الخوف او الرعب عندما أقدم الطاغية الخليفي وعصابته على جريمة التطبيع مع العدو، وأعلنوا انتماءهم لطرف المحتل وتنكّروا للمظلوم. هذه التصرفات إنما تعجّل بسقوطهم بعد أن ساهم قرارهم الإجرامي في تعميق حالة المفاصلة بين فريقين: أحدهما ينتمي للإيمان والإنسانية ويتشبث بالحرية، والثاني يصر على البغي والعدوان والظلم. في هذه المعركة المتواصلة يصمد أهل الإيمان ولا يزيد الظالم ظلمه إلا خسارا.
في معركة الكرامة والشرف تتوسع جبهات النضال ويستيقظ النائمون وينطلق الاحرار باندفاع مؤسس على الإيمان بهدف فرض واقع جديد يعجز الطغاة عن احتوء آثاره. فشعب البحرين أصبح صاحب القرار في العديد من قضاياه وقضايا الأمة، فتخرج جماهيره محتجة ضد الاحتلال الصهيوني، ولا تنتظر موافقة الخليفيين الذين يعتبرونهم عدوا متحالفا مع الصهاينة. هؤلاء الأحرار يعلنون بدون خوف دعمهم لكل شعب يدافع عن حريته وكرامته، فيدعمون شعب اليمن الذي ضحّى من أجل تحرره من الهيمنة السعودية، ويصر على توسيع مسؤولياته، فيعتبر أن دعم أهل فلسطين واجب وطني لا يمكن التقاعس عن تفعيله. وهكذا هم شعب غزة البطل الذي تحدى التحالف الشرّير الداعم للاحتلال الصهيوني، وعرّى عمالة أنظمة الاستبداد، ورفض التخلي عن حقه في التحرر من الاحتلال. وهكذا تتعمّق عقيدة الحق والحرّيّة في نفوس أحرار البحرين الذين كسروا جدار الخوف وتمرّدوا على الطغيان الخليفي، ووضعوا أرواحهم على أكفّهم كل يوم وهم يتظاهرون ويحتجون ويهتفون ضد الطاغية ويطالبون بسقوطه. إنه فصل آخر من ملحمة النضال البحرانية التي كتبت دماء الشهداء سطورها، وما تزال صفحاتها المضيئة تزداد توهجا وإباء، وتدفع الجيل اليافع إلى واجهة الكفاح بدون خوف او وجل. وسوف يستمر ذلك النمط من العطاء والتضحية حتى تتحرر البلاد من الطغيان الخليفي وداعميه. وسيؤكد الشعب ذلك في فعالياته المقبلة لإحياء الذكرى الثالثة عشرة لثورته المظفرة بإذن الله تعالى.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
2 فبراير 2024