العداء الخليفي للبحرانيين يدفعه لتصعيد التنكيل والانتقام
الموت سنّة الحياة، فلا مفر منه، وكما قال الشاعر كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول
ويشعر كل إنسان بضرورة تشييع موتاه إلى مثواهم الأخير، ولكن ماذا لو حرم من ذلك؟ بغض النظر عن سبب الحرمان، يشعر الإبن الذي لا يتمكن توديع أبيه أو أمه أو أخيه او المشارك في التشييع بفقد أحد جوانب حياته المعبّرة عن وفائه وإنسانيته. هذا ما يشعر الكثير من المعتقلين السياسيين الذين فقدوا أحبّتهم ولم يسمح الطاغية الخليفي المجرم لهم بالمشاركة في التوديع او التشييع أو مجلس العزاء. فقبل يومين توفي والد السجينالسياسي عبد الجليل يعقوب يوسف، ولم يسمح الطغاة له بالمشاركة في جنازته. وقبل ذلك منعوه من زيارة والده المريض، فمات والغصة في حلقه بعد ان حرموه من لقاء نجله المظلوم الذي تعرّض لأبشع أصناف التنكيل. وما أكثر الذين فقدوا أباءهم أو أمهاتهم أو أقرباءهم وهم يرزحون وراء القضبان، بدون أن يُسمح لهم بالمشاركة في مراسم التشييع والعزاء. إنها واحدة من أبشع المعاناة النفسية التي يواجهها السجناء السياسون في ظل الحكم الخليفي الجائر.
وهنا تبدو بعض مشاهد القصة التراجيدية التي يمر بها السكان الأصليون في البحرين خصوصا منذ أن تولّى الطاغية الحالي مقاليد الحكم قبل 25 عاما. فقد اكتظت السجون بالمعتقلين السياسيين، وتواصل إصدار أحكام السجن بحقهم، وأغلبها مدد طويلة تصل الى المؤبّد. ولم يُعرف عن هذا الطاغية شيء من الرأفة او الرحمة، فلم يُصدر يوما أمرا بتخفيف الأحكام إو إطلاق سراح ذوي العاهات، بل أصرّ على الانتقام من البحرانيين بأبشع الأساليب. وهنا تبدو قضية الدكتور عبد الجليل السنكيس كواحدة من أبرز قضايا الاضطهاد والحقد الخليفي وغياب الرأفة والرحمة عن قلوب المجرمين القساة. فهو معوّق منذ الولادة ولا يستطيع المشي إلا باستخدام عكازتيه. وبلغ الحقد الخليفي ذروته عندما صادرو العكازتين وأجبروه على الزحف للوصول الى الحمّام. مع ذلك لم يضعف هذا البطل في موقفه، بل زادته المعاناة إصرارا على ضرورة التغيير. وما أكثر المعوّقين الذين سجنهم الطغاة الخليفيون وحرموهم من حقوقهم الطبيعية المشروعة. ويكفي الإشارة إلى أن الكثير من المعتقلين السياسيين، خصوصا رموز الوطن والشعب، قد أمضوا حتى الآن أكثر من ثلاث عشر عاما في المعتقلات، بدون ان يلوح في الأفق ما يشير إلى قرب الإفراج عنهم. وقد فقد الكثيرون منهم خلال هذه الفترة بعض أحبّتهم ولم يتمكنوا من حضور جنائزهم. فما هذا الحكم المتوحّش الذي لم يجعل الله في قلوب رموزه شيئا من الرحمة؟
قصة السجين عبد الجيل يعقوب يوسف ليست الوحيدة من نوعها. فقد حرم آخرون قبله من رؤية أحبتهم في مرضهم ولم يحضروا تشييع جنائزهم أو حضور مجالس عزائهم. هذا برغم المناشدات التي تصدر من النشطاء الحقوقيين للعصابة الخليفية بالسماح لهم بذلك. ففي العام الماضي منعت إدارة سجن جو القيادي البارز الأسير الشيخ سعيد النوري من حضور مراسم جنازة وفاتحة والده المرحوم الحاج ميرزا النوري الذي وافته المنية يوم الجمعة (8ديسمبر /كانون الأول 2023). وقد عطّل دفن الجنازة يومين على أمل حضور الشيخ سعيد ولكن بدون جدوى. وفي العام 2015 رفضت إدارة سجن جو خروج الأخوين عبد الهادي الخواجة وأخيه صلاح من السجن لحضور جنازة شقيقهما. وفي العام انفسه منعت إدارة سجن جو المعتقل البحريني عماد ياسين (من منطقة سار) من حضور جنازة وفاتحة والده المرحوم المهندس ياسين عبدالحسين الذي جرت مراسم تشييعه ودفنه يوم الأحد الأول من فبراير 2015. وفي العام الذي سبقه حرم السجين السياسي علي سعيد عبدعلي العصفور من حضور مراسم جنازة والده ولا مجلس العزاء، برغم موافقة قاضي المحكمة على خروج المتهم في 6 أكتوبر 2014 لهذا الشأن. وفي فبراير من 2014 رفضت إدارة سجن جو طلب الإفراج المؤقت عن السجين حسن المعتوق لحضور مراسم تشييع ودفن والده الذي وافته المنية يوم السبت الأول من فبراير. وهناك أعداد كبيرة من المعقتلين السياسيين الذين رفض الخليفيون السماح لهم بحضور مراسم تشييع أقربائهم، برغم أنه حق مشروع لهم.
ولكن الحاكم الذي يرى أن وجوده لا يتحقق إلا بغياب الآخرين أو موتهم، لا يستجيب لهذه الطلبات التي تعتبر عادية لدى الحكومات الأخرى. فكيف تكون حالة السجين السياسي الذي قضى شطرا كبيرا من عمره بطوامير التتعذيب، بدون أن تتاح له الفرصة حتى لإلقاء النظرة الأخيرة على حبيب له على مشارف الموت؟ هذا فضلا عن حرمانه من مشاطرة أهله أفراحهم أو أتراحهم. هذا الجانب ا لإنساني الغائب عن السياسات الخليفية تجاه الشعب البحراني الذي يعاني من الاحتلال والقمع والاضطهاد، يكفي لحرمان االحاكمين من الشرعية، واعتبارهم مجرمين حقيقيين يستحقون المقاضاة أمام محاكم دولية عادلة. إنه اضطهاد ممنهج للإنسان، وتنكّر لإنسانيته، وإمعان في سياسات الإذلال والحرمان والقمع. ولكن المشكلة تكمن في تجاهل هذه الحقيقة من قبل الجهات الدولية المعنية، وكذلك من الأنظمة السياسية الاقليمية والدولية التي لا تحركها مشاعر الغضب والحزن والأذى التي تعتمل في نفوس المظلومين والمضطهدين. هذا التجاهل يشجّع الطغاة على مواصلة طغيانهم، ويحول دون الإصلاح. وبرغم تطور التشريعات الدولية الساعية لتنظيم العلاقات بين البشر، إلا أن أنظمة الاستبداد لا تجد نفسها ملزمة بها، خصوصا في غياب وسائل الضغط عليها من الدول الآخرى او المنظمات ذات الصلة. يضاف إلى ذلك أن المنظومة الحقوقية لا تحظى بدعم الدول الغربية بشكل واقعي. فأمريكا وبريطانيا وبعض الدول الاوربية لا تريد تغيير الواقع السياسي في المنطقة الذي قد يؤثر على ا لتوازن السياسي مع الكيان الإسرائيلي. فالسياسات الغربية تتمحور حول “إسرائيل” وأمنها. فهذا هو الهدف الأول للسياسات الغربية تجاه الرق الأوسط.
لقد أصبح السجن وسيلة أنظمة الاستبداد الأساسية لاحتواء الغضب الشعبي وتجاوز المطالب بالتغيير والتحول الديمقراطي. ولذلك يمعن الحاكم المستبد في الظلم والقمع، ويسعى لتعميق الشعور لدى النشطاء بأمور عديدة: أولها عدم جدوى ا لحراك الميداني كدافع للتغيير، ثانيها: أضعاف الحراك السياسي الذي يتصدر مشروع التغيير والدعوة له. ثالثها: غرس الرعب في النفوس كوسيلة ردع من الحراك الميداني، وذلك بمضاعفة العقوبات والتنكيل والاضطهاد. رابعها: خلق أجواء غير مشجعة على العمل التغييري والتحول السياسي، وفرض ثقافة الابتعاد عن السياسة وعدم التعرض للسلطة القائمة بإظهارها راسخة ومتمكنة وقادرة على كسر شوكة المعارضين. فلم يعد السجن عقوبة محدودة للنشطاء تهدف لتخفيف حماسهم لمشروع التغيير والتحول الديمقراطية، بل أصبح سلاحا بيد الحاكم يستخدمه كما يشاء لقمع من يريد. فإذا أضيف لعقوبة السجن أساليب اضطهاد أخرى كالتنكيل والتعذيب والمحاكمات الجائرة والإهانة، أصبح النضال مرهقا للكثيرين الذين سرعان ما يعيدون حساباتهم ويتوقفون عن المشاريع التي ارتبطوا بها ابتداء كطريقة للتغيير. والأمل ان يكون إفراط الخليفيين في ممارسة التنكيل بحق الأبرياء والنشطاء، عاملا مضادا لما يريده الطغاة، وبصبح حافزا للإصرار على التغيير من خلال العمل الميداني. السجن سيبقى رادعا، ولكنه يفقد بريقه ودوره حين يبدو عقوبة صارمة حين يلجأ الطغاة إلى العنف بدون حدود. وتؤكد تجارب الأمم والشعوب استعصاء الشعوب على التطويع بالقمع والاضطهاد اللذين كثيرا ما تحولا إلى عوامل تحريك وتشجيع للتصدي للطغيان والظلم والاستبداد. والأمل أن تتعمّق روح النضال في نفوس المواطنين ويصبحوا أكثرا استعدادا للتضحية والفداء ليكون لذكل انعكاسات طيبة في نفوس الجماهير الراغبة في مواصلة النضال.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
1 مارس 2024