مشاعر البحرانيين الإيمانية تتوهج في شهر الصوم وتفسد ذكرى حكم الطاغية
إذا كان الصوم أهم ما يميز شهر رمضان المبارك، فإن أجواءه تميزه كثيرا عن بقية أيام السنة. ولذلك تكون الأيام التي تسبق حلول الشهر الفضيل فرصة للاستعداد النفسي والاجتماعي، وبداية تعمق مشاعر المؤمنين بالفرحة والاطمئنان. إن من المؤكد أن لكل شهر هجري ميزته وأجواءه، ومنها شهر محرم الحرام وشهر ربيع وشهر شعبان وشهر ذي الحجة، هذه الأجواء مستوحاة من المناسبات الدينية التي تحل في تلك الشهور، وتساهم في تغيير مزاج الإنسان بسبب ما تنطوي عليه من ذكريات تختزنها الذاكرة وتختلج مشاعر النفس إزاءها. مع ذلك فالأجواء الرمضانية لها طعمها الخاص التي تحرّك في الإنسان مشاعر عديدة: أولها الإحساس بطعم الصوم وانعكاساته الأخلاقية والصحية، ثانيها: تعمق الشعور بلذة العبادة التي ينتظر المؤمن حلول الشهر لأدائها، ابتداء بالصوم مرورا بالصلاة والدعاء وصولا إلى تلاوة القرآن الكريم. ثالثها: كثيرا ما يستعيد الصائم ذكرياته القديمة في شهر رمضان، خصوصا أيام الطفولة والشباب وبدايات أداء تلك العبادة. رابعها: استحضار المجالس الرمضانية وما يتصل بها من تفاعل اجتماعي يحدث على خلفية ارتفاع اصوات قرّاء القرآن في المساجد او المآتم او المجالس الخاصة. وحتى في أحلك الأوقات تتجلى لذة الشهر. وهذا ما يشعر به السجناء السياسيون الذين يخلقون في زنزاناتهم أجواء خاصة بالشهر الكريم تساعدهم على مواجهة صعوبات السجن والانعزال عن العالم الخارجي. في تلك الظروف يعيش أولئك السجناء أجواء تفوق في روحانيتها ما يعيشه الآخرون خارج المعتقلات. فهناك تفرغ كامل للعبادة وانقطاع للقاء الله، وأوقات واسعة للارتباط بكتاب الله الذي يصبح مؤنسا حقيقيا للمناضلين والأحرار المغيبين وراء القضبان.
يحل شهر رمضان المبارك هذا العام في أجواء إقليمية ومحلية متميزة. هذه الأجواء لا يمكن أن تغيب عن أذهان المسلمين في شرق الأرض وغربها. فالظروف الإقليمية يغلب عليها شعور الحزن والآسى لما يكابده أهل غزة من عدوان إسرائيلي شامل، أتى على الأخضر واليابس وقتل الأطفال وأدمى قلوب الآباء والأمهات. ولا تنحصر معاناة أهل فلسطين بما يواجهونه من قتل ودمار أعاد للأذهان مشاهد الحرب العالمية الثانية، بل تمتد معاناتهم لتتصل بأوضاعهم المعيشية ما يعانونه من شظف العيش وشحة الطعام. وثمة شبح مرعب لمجاعة بدأت آثارها واضحة بين الأطفال الجياع والأمهات اللاتي لا يحصلن على طعام لأطفالهن. ويفترض ان يجد الصائمون في أرجاء العالم دافعا حقيقيا للعطاء والبذل من أجل إنقاذ أهل فلسطين من الجوع والفاقة. كما يُفترض ان يكون الصوم محرّكا لمشاعرهم الإنسانية بشكل أكبر، فيتحركون بحماس من أجل رفع الظلامة عن أولئك المحاصرين في غزة. مطلوب من كل صائم أن يستحضر أمامه كل يوم معاناة أولئك الذين لا يجدون ما يفطرون عليه بعد يوم طويل من العناء. فلسطين هذا العام تحولت إلى مؤشر لمدى حيوية المشاعر الإسلامية والإنسانية في نفوس الصائمين. فما جدوى الصوم إذا لم يكن رفع الظلم عن المظلومين أحد أهدافه؟ وما جدوى الانقطاع إلى الله إذا كان لا يحرك الشعور بضرورة أنقاذ الجرحى والمرضى والجياع من براثن عدو لئيم لا تردعه الإنسانية أو الأخلاق او القيم.
وعلى الصعيد المحلي لا يستطيع الصائمون في البحرين مثلا قضاء أيام الشهر الفضيل ولياليه بدون استذكار معاناة إخوة لهم يرزحون في سجون الظالمين. أكثر من خمسين منهم قضى 13 رمضانا وراء القضبان، بعيدا عن شعبه وأهله، محروما من الاستمتاع بالحرية في أرضه وأرض أجداده. من الفاعل؟ حثالة من البشر انقضت على البحرين في غفلة من الزمن وأمعنت في أهلها قتلا وتشريدا بعد ان احتلتها. ولم تكتف هذه العصابة بذلك بل استدعت الأجانب بين الحين والآخر إما للاستيطان او لحماية عصابة الاحتلال الخليفية. البحرانيون لم يتزحزحوا عن عقيدتهم وانتمائهم الديني، ولم يستسلموا للواقع الذي فرضه الاحتلال الخليفي البغيض، بل بقي في النفوس حتى اليوم بعد ان تحوّل حائلا دون تطبيع علاقة السكان الأصليين (شيعة وسنة) مع الخليفيين. وسعى هؤلاء لاستبدال الدعم الشعبي الضروري لاستمرار حكمهم بدعم خارجي من أطراف شتى من بينهم الاحتلال الإسرائيلي المقيت. لذلك ستبقى العلاقة بين الطرفين متوترة خصوصا مع رفض الخليفيين تطوير منظومتهم السياسية او الاعتراف بشعب البحرين بدلا من محاولات استئصاله من خلال مشروع التجنيس السياسي. ولن يكون مستقبل الحكم الخليفي مشرقا يوما، بل سيعيش رموزه معزولين عن الشعب، محاطين بجلاوزة الأمن ومسكونين بالخوف من انقضاض الشعب عليهم في أية لحظة. أما السلاح الذي كدّسوه لقتل الشعب فلن يحميهم حقا، ولن يوفر لهم فرصة الاستمتاع بالحكم، بل سيكون وبالا عليهم دائما.
وقد فوّت الطاغية الحالي على نفسه فرصا عديدة منذ ان احتل منصبه بعد وفاة أبيه في مثل هذه الأيام قبل ربع قرن. كان بإمكانه الاستفادة من تلك الفرصة لإصلاح الوضع السياسي بعد سنوات الانتفاضة التسعينية المباركة. ولكنه حاول التذاكي على الشعب بفرض ميثاقه المشؤوم الذي استغله لإلغاء دستور البلاد الشرعي واستبداله بدستوره الخاص. لذلك تراجعت أوضاع البلاد السياسي والأمنية في عهده، واستمرت حالة الطواريء 25 عاما. وعندما احتفل الطاغية بذكر ربع قرن على استلامه منصبه لم يشاركه المواطنون الشرفاء فرحته، بل عبّروا عن غضبهم وحزنهم وأسفهم لاستمرار الحكم الخليفي، وكرّروا تعهدهم بالعمل لتغييره. فليس هناك في حقبة حكمه ما يدفعهم للفرحة او التفاؤل، فالسجون مكتظة بالسجناء السياسيين، وعائلات الشهداء لم تنس أبناءها الذين فقدوا حياتهم في عهد هذا الطاغية إما تعذيبا في الطوامير او قتلا بالذخيرة الحية أو إعداما. والمنفيّون ظلما من وطنهم يأبون تناسي محنتهم ويصرّون على العمل المتواصل لإنهاء الحقبة السوداء التي فرضها الخليفيون على وطنهم وشعبهم. ومن أقاصي البلاد التي استوطنوها في هجرتهم يشعرون دائما بالانتماء لهذا الوطن، ويبذلون جهودهم لإضعاف قبضة الاحتلال الخليفي بما يتوفر لديهم من وسائل وأساليب. فمن أستراليا إلى نيوزيلاندا إلى البلدان المجاورة كإيران والعراق ولبنان، الى ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وبريطانيا وصولا إلى أمريكا، تعيش الجاليات البحرانية هم الوطن ومشاعر الحب والانتماء إليه. وهناك الآن جيل ثان وثالث من البحرانيين الذين يعيشون غرباء عن الوطن، كل ذلك بسبب الاحتلال الخليفي. هؤلاء جميعا يحملون مشاعر الغضب ضد الطاغية الخليفي المتربع على كرسي الحكم بالقوة التي يستمدها من خارج الوطن، بعد ان فشل في توفيرها من الدعم الشعبي او الشرعية الدستورية.
في هذه الأجواء يحل شهر رمضان المبارك متزامنا مع الذكرى السوداء لحكم حمد بن عيسى، لتشعل في نفوس البحرانيين، داخل البلاد وخارجها، خصوصا في السجون المظلمة، مشاعر الغضب من جهة، والآمال العريضة من جهة أخرى. إنهم يؤمنون بأن الشعوب تبقى أما الطغاة فيرحلون، وأن ممالك الظلم لا تدوم مهما امتد وجودها وما لديها من قوة مادية. بالحق لا يضيع ما دام هناك من يطالب به، والظلم زائل ولو بعد حين، لأن دولة الظلم ساعة ودولة الحق غلى قيام الساعة. وفي الأجواء الرمضانية تختلط مشاعر البحرانيين بعبادتهم الصادقة ودعائهم المنبعث من قلوبهم، بأن يمحق الله الحكم الخليفي وطغاته ويحقق للوطن والشعب أجواء الأمن والطمأنينة. يصلّي هؤلاء من أجل البحرين وغزة وكافة مظومي العالم واثقين بأن الله يسمع دعوتهم ومناجاتهم وأن الله يدافع عن الذين آمنوا وأنه لا يحب كل خوّان كفور.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
8 مارس 2024