بيانات حركة أحرار البحرين

كلمة وفاء وعرفان لمن خدموا الأمة

“من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا”
 
ليس غريبا أن يموت العظماء، فتلك سنة الله في الحياة، وما من مخلوق وإلا ويرحل عن الدنيا يوما: “وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، أفإن متّ فهم الخالدون”. ولكن الموت غير محبّب للنفوس بشكل عام وإن كان حقّا. وحين يكون الفقيد معطاء وخادما وصادقا في القول والفعل، فإن المصيبة بموته تتضاعف لدى محبيه وعشاقه. وهذا ما حدث هذا الأسبوع عندما لحققت كوكبة من المسؤولين الإيرانيين بربها إثر تحطم الطائرة العمودية التي كانوا على متنها. لم يكن رحيلهم المبكّر متوقعا بهذه السرعة، برغم رسوخ القناعة بحتمية فناء كل البشر على اختلاف أعمارهم. لذلك كان وقع الحدث صادما للكثيرين من محبّيهم. ومن المؤكد أن هناك من فرح بغيابهم، وهذا أمر طبيعي. فالعظماء يختلف الناس إزاءهم وتتباين المواقف ما بين الحب والبغض. فطوبى لمن أحبّه المؤمنون. وقد جاء في أحد الأدعية المأثورة: اللهم فقّهني في الدين، وحبّبني إلى المسلمين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين”.
 
ما الذي يجعل السياسي محبوبا؟ ما أكثر ما قيل عن سلبيات السياسة وأنها “قذرة” وأن من يعمل فيها “دجال” و “كاذب” وغير ذلك من النعوت. وما حدث هذا الأسبوع أظهر حقائق أخرى لم تكن معروفة لدى الكثيرين. ومشكلة تأسيس المواقف على غير علم أنها قد تؤدي إلى ظلم الآخرين. كما أن النظرات الموغلة في التبسيط والسطحية توصل أصحابها إلى نتائج مستعجلة وغير موزونة. وهذه طبيعة الممارسة البشرية، فمن الذي يُعمل فكره في الأمور بما يكفي؟ ومن الذي يفحصها بالقدر اللائق؟  فالدين نفسه يحث أتباعه على ممارسة أدوار في الحياة العامة، وتمثل قضايا الحكم والإدارة والسياسة دوائر محورية في هذه الممارسة، ولذلك وضع ضوابط لها لمنع الانحراف والفساد. هذا يعني أن بالإمكان ممارسة نمط نظيف من السياسة يحقق قدرا من العدالة والإنصاف بين الناس ويحمي العاملين في مجالها من الفساد.
 
لقد كان الرئيس الإيراني الراحل، السيد إبراهيم رئيسي، رجل سياسة ودين، وكان لذلك تأثير على نشأته ووظائفه التي مارسها منذ أن التحق بمشروع الثورة وهو دون العشرين من العمر. لقد اختلط الحس الثوري بشخصيته، فعاش وفق مقتضياتها، وروّض نفسه لترضى بما يقتضيه ذلك من إيمان وبساطة وقناعة. ويكفي النظر إلى والدته التي فجعت برحيله المبكر، والمنزل المتواضع الذي تسكنه لكي تتضح المصاديق العملية للزهد والتواضع. رئيس الجمهورية الإسلامية لم يتاجر بسلوكه وممارساته، بل اتسم بالصمت وقلة الكلام وكثرة العمل والتفاني في خدمة المواطنين والالتحام معهم. كانت هذه طبيعته حتى الساعات الأخيرة التي سبقت رحيله. فعندما رأى الجماهير تحيّيه بلهفة، أمر سائق السيارة بالتوقف، ونزل منها ليختلط بهم بدون مراعاة لقضايا الأمن ومقتضيات “الدبلوماسية”. و لذلك عندما لحق بربه عبّر هؤلاء عن حزنهم العميق لذلك الرحيل. يضاف لذلك أنه تبنى مشاريع كثيرة لخدمة المواطنين في مناطق نائية، فكان على مقربة من قلوبهم وأشعرهم بالحب والاحترام والحنان. لقد قدم رئيسي نمطا من الحكم تميز بالتواضع والزهد والحنان بالإضافة للقدرة على اتخاذ القرار وإدارة الدولة بكفاءة.
 
أما وزير الخارجية أمير حسين عبد اللهيان فكان هو الآخر كتلة من النشاط التي لا تتوقف. وقد انتهجه دبلوماسية متحركة أخذته إلى بلدان كثيرة من العالم من الصين إلى أمريكا. وقد حرص الإثنان على تطوير العلاقات مع دول الجيران لمنع التوتر خصوصا في منطقة الخليج التي تعج بالأساطيل الأجنبية وأطماع الدول الكبرى. وموضوع أمن الخليج كان منذ عقود همًّا للقيادة الإيرانية نظرا لما ينطوي عليه من احتمالات التدخل الأجنبي تحت عناوين شتى، من بينها حماية الأصدقاء، وكذلك خطوط إمدادات النفط، بالإضافة للرغبة في منع الهيمنة الإيرانية على مياهه. السيد عبد اللهيان تبنّى سياسة مدّ الخطوط الدبلوماسية مع الدول العربية والإسلامية بشكل عام، وسعى لتفعيل دور منظمة التعاون الإسلامي، كما عمل على تمتين العلاقات بين إيران والدول الإقليمية الكبرى مثل تركيا والعراق وسوريا وباكستان. وكانت عينه دائما على فلسطين، التي كانت حاضرة في خطاباته أمام الأمم المتحدة وفي المناسبات الوطنية الكبرى وفي المفاوضات مع قادة الدول. فهو يحمل خلفية ثورية حيث واكب الثورة منذ نعومة أظفاره وكان عنصرا فاعلا في تحريك دبلوماسيتها بعد أن أصبح وزيرا للخارجية. لهذه العوامل جميعا اعتُبر واحدا من أركان الجمهورية الإسلامية التي شعر مسؤولوها بخسارة كبرى برحيله.
 
كانت قضية البحرين وشعبها حاضرة في ذهنه ووعيه واهتمامه. وقد التقى مرارا بوفود من المعارضة البحرانية وبذل جهودا لإقناع الدول الداعمة للعائلة الخليفية ممارسة الضغوط على حكومتها لتخفيف الضغط عن المواطنين والإفراج عن المعتقلين السياسيين. فقد كان سفيرا في البحرين ما بين العامين 2007 إلى 2010. آنذاك كانت الأوضاع سياسية أقل توترا، فكان يتنقل بين مجالس المواطنين للاطلاع على همومهم من أجل صياغة سياسة بلاده تجاه شعب تشترك معه في العديد من الهموم الدينية والمذهبية والسياسية. وعندما أصبح وزيرا للخارجية لم تغب قضية البحرين عن ذهنه، وتطرق إليها في دهاليز السياسة واللقاءات الدبلوماسية والتصريحات الصحافية. كان ينطلق من شعوره بضرورة وقوف الجمهورية الإسلامية مع المستضعفين والمظلومين، وهذا شعار أساس لهذه الدولة منذ انتصار ثورتها التي قادها الإمام الخميني في العام 1979. وكان اهتمامه بقضية فلسطين ملحوظا.  كانت على رأس أجندته الدبلوماسية حتى أطلق عليه البعض ” سفير فلسطين.” واعتبرته قوات الاحتلال عدوا لدودا. فهو من بين الدبلوماسيين القلائل الذين كانوا يلتقون بوفود الفلسطينية ويعلنون ذلك في وسائل الإعلام ويطلقون التصريحات الداعمة لشعب فلسطين والمطالبة بتحرير أرضها كاملة. فلم يكن يخشى من ردود الفعل الغربية الرافضة بهذه الشعارات والمبادئ، بل كان يضغط عليها لتغيير سياستها الداعمة للاحتلال.
 
في ظل هذه الحقائق يعتبر رحيل هذين الرجلين خسارة للأمة التي قلّ من يحمل همومها من رجال السياسة و فبقيت مستضعفة من قبل قوى الهيمنة والاستغلال والاستعمار. هذا لا يعني أن مسار الأمة نحو الاستقلال والوحدة قد توقف. فهي أمة قادرة على إنتاج الأبطال والمفكرين والعلماء خصوصا إذا كانت ملتزمة بانتمائها الديني وعقيدتها الإسلامية. من المؤكد أن رجالا آخرين سيظهرون حاملين اللواء الدفاع عن فلسطين وعن حقوق الشعوب المظلومة، سواء من إيران أو غيرها. هذا مشروط بنقاء نوايا أبنائها وصفاء توجهاتهم. هذا لا يقلل من حجم الصدمة التي شعرت بها الأمة وهي تتلقى نبأ تحطم الطائرة التي كانت تقلّ رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووزير خارجيتها يوم الأحد الماضي. وسيبقى هذا اليوم حيا في ذاكرتها، مع إيمانها بأن قضاء الله لا يرد، وأن أحدا لا يستطيع أن يوقف قطار الموت الذي يحصد أرواح البشر بدون توقف. وفي ذلك عبرة لمن يريد أن يعتبر خصوصا ممن هم في موقع المسؤولية من حكام الطغيان والاستبداد والتجبر والظلم والتنكيل. ممارسات شيطانية تؤذي الأبرياء ولا تقتل الشعوب، وتغري الطغاة ولا تحميهم.
 
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
24 مايو 2024
زر الذهاب إلى الأعلى