دروس من عاشوراء لمن أراد الاستفادة
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام.
مع توالي أيام عاشوراء يزداد المؤمن ارتباطا بالمشروع الذي نهض الحسين لإنقاذه بإصلاح أمة جدّه عليه أفضل الصلاة والسلام. فالمنبر الحسيني يمارس دوره التوعوي، على الأقل بتثبيت حقائق التاريخ وتكرارها لكي تثبت في أذهان الأجيال المتتالية، لكي تبقى ظلامة الحسين (التي تمثل ظلامة رسول الله والإسلام المحمّدي والقرآن الكريم) حاضرة لدى الأمّة. وقد أصبح واضحا أن محاولات اليزيديين التصدي للمشروع الحسيني المبدئي فاشلة دائما. فالمجالس الحسينية تقام في كل رقعة من الأرض، وعنوان قضية الحسين يزداد وضوحا وانتشارا في الأصقاع. وقيم الحسين تتجسّد في نضال الشعوب من أجل الحرّيّة والاستقلال، فما يجري في غزّة والمناطق الأخرى من عالمنا الإسلامي يتمحور حول قضايا الحق والحرّيّة والإصلاح وحفظ كرامة الإنسان، وهي القيم التي حفلت بها نهضة الحسين.
لا يستطيع الإنسان المؤمن أن يمرّ بعاشوراء بدون ان يتوفر على عدد من الأمور:
أولها: أن تتحرك إنسانيته بدون تردّد حزنا على ما حدث في تلك الصحراء في العاشر من المحرم من العام 61 بعد الهجرة، الذي صادف 12 أكتوبر 680 بعد الميلاد. وصفة الإيمان ضرورة لتحريك المشاعر الإنسانية، لأنه يدفع الشخص للتمعن والتفكر في حوادث ذلك اليوم التاريخي الذي حفرته الدماء في أذهان من اختلج الإيمان في نفوسهم. لم يكن الحسين بن علي، حفيد رسول الله عليهما أفضل الصلاة والسلام ضحية معركة بين جيشين مثلا أو قبيلتين، بل كان قتله جزءا من مشروع واسع يرى أن نجاحه لن يتحقق إلا باقتلاع آل الرسول، صفوة قريش وزينة العرب وفخر الإنسانية. ولم يكن كافيا قتل الحسين بصورة عادية، بل كان يقتضي التنكيل والتمثيل والتقطيع لكي يتضح ثمن معارضة المشروع الأموي الذي كان مخططا له أن يحل محل إسلام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام. كان لا بد ان تكون واقعة كربلاء “درسا” لمن يفكّر في إفشال ذلك المخطط بالتصدي الحقيقي له. وكانت هناك مؤشرات كثيرة لتأكيد المنحى الدموي التصفوي الذي تأسس عليه المشروع الأموي. فكان تعيين زياد بن أبيه على البصرة ثم الكوفة وإطلاق يديه لارتكاب أبشع الجرائم بحق البشر من تنكيل وتعذيب بأساليب لم يعهدها العرب آنذاك، ضرورة لفرض ذلك المشروع واقتلاع المقاومة له بأبشع الأساليب. ولذلك جاءت توصيفات ما جرى للحسين منسجمة مع طبيعة المشروع وما كان أصحاب ذلك المشروع يخططون له. فقتل الأطفال وقطع الأيدي ورض الأجساد وحرق الخيام وهتك حرمة نساء آل بيت رسول الله، كل ذلك كان ضمن خطة محكمة وضعها البيت الأموي ونفذها عبيدهم في مقابل الوعود بالمال والجاه.
ثانيها: بعد ان تفيض مشاعر المؤمن بالحزن والأسى لما حلّ بأطهر الخلق، يأتي دور العقل الذي يمتلكه المؤمن، ليبدأ طور التفكير في المشروع الأيديولوجي والسياسي لكي يتعرّف على طبيعته وأبعاده. هذا التفكير كان مطلوبا لحظة وقوع كبرى الجرائم التي ارتكبت منذ بزوغ فجر الإسلام، كما أنه مطلوب للتعاطي مع ما جرى في العقود اللاحقة من ثورات واضطرابات وتوسع في الدائرة المحسوبة على الإسلام، وما جرى طوال الأربعة عشر قرنا الماضية حتى اليوم. إنه ليس تفكيرا أكاديميا أو طوباويا، أو من أجل البحث عن هوية دمّرها الأمويون في كربلاء وما بعده، بل أن تفعيل العقل ضرورة لإقامة منظومة حياتية مؤسسة على الدليل والمنطق والبرهان. ويمكن القول أن تغييب العقل عن الحياة العامة ساهم في تجهيل أجيال متعاقبة، وأضعف موقع المسلمين في العالم، هذا العقل هو الذي أهّل الأجيال الأولى للولوج إلى فضاءات العلم والمعرفة، وساهم في بناء حضارتهم التي استمرت قرونا.
ثالثها: أن التفكير العاقل يفترض ان يدفع المرء لانتهاج مشروع التغيير من أجل التطوير. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. ولا ينفع التباكي على ما ضيّعه المسلمون من أمجاد، ولا التذرّع بعدم القدرة على مواكبة العصر، ولا توجيه اللوم للأوضاع المعيشية في عالم المسلمين. بل المطلوب تجديد العزم نحو العمل الذي يجب أن يبدأ بالعلماء والمفكّرين وينتقل بشكل تلقائي الى المجتمع وروّاد التغيير فيه. ومن المؤكد أن استمرار قبضة الاستبداد وتغوّل الديكتاتورية من المعوٌقات الأساسية للتغيير. ولكن إرادة الشعوب لا يمكن كسرها بأساليب التنمر والظلم والقمع. والعمل المنشود يتطلب التضحية والعطاء ونزع لباس الكسل، والوفاء بالوعد لله تعالى بالعمل من منطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو تطلّب ذلك تضحيات كبيرة، فإعادة بناء أمة المسلمين ليست هدفا بسيطا، بل مهمة شاقة تتطلب تلك التضحيات. ولا جدوى من دعاوى حب الحسين عليه السلام بدون عقد العزم على الاقتداء به سواء في إعلانه بالعمل من أجل إصلاح أمة جدّه، رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، أم التصدي للحاكم الجائر، أم التضحية بالنفس والأهل والأصحاب.
رابعها: إن دعوى حبّ الحسين بدون الاقتداء بسيرته لا يكفي، فالإمام لم يقصد أن ينحصر مشروع حماية المشروع المحمّدي بما يقدمه من تضحية، وهي تضحية غير مسبوقة من حيث عمق الإيمان ووضوح الهدف وحجم الفداء. لقد أراد الحسين أن يكون دمه الشريف وقودا لحركة تغيير تاريخية لا تتوقف، حتى يظهر الله دينه كاملا، وحتى تقوم دولة الحق والعدل الإلهية. فمن يحبّ الحسين يجب ان يقتدي به في عطائه وتضحيته وإخلاصه للهدف الذي أعلنه. حبّ الحسين يقتضي تعمّق مشاعر الولاء والاقتداء بالإضافة لإظهار الحزن والتفاعل النفسي بإقامة المجالس وحضورها وتعميق البحث العلمي في واقعة الطف وكافة تفصيلاتها. فما جرى يوم العاشر من المحرم من العام 61 للهجرة كان صحوة ضميرية وإنسانية من سبات استمر ربع قرن كادت رسالة محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام تُقتلع من الأرض. وكان الحسين واعيا بحقيقة تغيب عن الكثيرين: أن صمته سيوفر “شرعنة” للمشروع الأموي الذي يعتبر انقلابا على المشروع المحمّدي وأن المسخ الذي تعرّضت له الأمة سيكون دائما وستنتهي المقوّمات التي جعلتها خير الأمم: “كنتم خير أمّة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر”. دماء الحسين وضعت حدّا لذلك التداعي على مستويات الإيمان والالتزام والطاعة المطلقة لله ورسوله. فليس المطلوب أن تكون إطاعة الرسول نسبية بل مطلقة، وعندما رفض البعض الالتزام بذلك حدثت الطامّة الكبرى في التاريخ الإسلامي، فأصبحت الأمة تُحكم، ماضيا وحاضرا، من قبل أشخاص مثل يزيد الذي أبعد روح الإسلام وقيمه عن الحياة العامة.
في ظل هذه الحقائق، نهيب بالمؤمنين العودة إلى الجذور وذلك بإحياء تراث رسول الله وقراءة السيرة النبوية بوعي،
واستحضار أوامره ونواهيه وعقد النية على الالتزام بالطاعة المطلقة له تطبيقا للآية القرآنية: ما كان للمؤمنين إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أنفسهم. الحسين ضحّى بنفسه لوقف ظاهرة التداعي التي بدأت برفض إطاعة الرسول ووصلت الى استضعاف المسلمين، بعد أن بلغوا ذروة قوتهم، حتى بلغ الأمر بهم ان يسكتوا على تغيير مشروع الحكم الإسلامي وينصاعوا للإرادة الأموية ويقبلوا بيزيد حاكما. وما عليهم إلا ان يلتفتوا إلى ما فعله معاوية نجل يزيد الذي رفض استلام الحكم من أبيه بعد وفاته، لعلمه أن ذلك الحكم انتزع بالقوة طمعا في الحكم واستهدافا للإسلام ونظامه السياسي. وموسم عاشوراء فرصة للعودة إلى أصول الإيمان التي تعمّق في أوساط المسلمين مفهوم الطاعة المطلقة (غير النسبية) لله والرسول. ويكفي الوصول لهذه النتيجة لاعتبار موسم عاشوراء ناجحا.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا، يا ربّ العالمين
حركة أحرار الإسلامية
12 يوليو 2024