من فلسطين إلى البحرين: الشعوب تنتصر بالصبر والمثابرة برغم الاغتيال والاعتقال
انتقام الطغاة من الأتقياء الصالحين ليس ممارسة جديدة اخترعها حكام الاستبداد في القرن الحادي والعشرين. إنها ممارسة ارتبطت تاريخيا بالصراع المتواصل بين الحق والباطل، بين دعاة الإيمان ورموز الكفر، بين عباد الله الحريصين على إقامة الحق والعدل والمتفرعنين الذين يقول الواحد منهم: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا طريق الرشاد. هؤلاء لا يكتفون بالتنكيل بدعاة الخير والدعاة إلى الله فحسب، بل يسعون لتضليل الناس وإيهامهم بأن فسادهم وإفسادهم إنما هو عين الصلاح (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)، وأن عباد الله الصالحين هم المنحرفون، كما قال فرعون عن موسى عليه السلام: إني أخاف أن يبدّل في دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد. هذا يعني أن الحاكم المنحرف الذي لا يضلل الجماهير أقل خطرا من النوع الآخر الذي يتظاهر بالصلاح ويتهم المصلحين بالفساد. وقد أصبح هذا هو المنطق السائد في أوساط حكام اليوم الذين يغوصون إلى الأذقان في مستنقع الفساد والظلم، ثم يستغلّون وسائل إعلامهم ليس لتلميع صورتهم فحسب، بل لإظهارهم في حلل التقوى والإيمان والصلاح. وما أكثر هؤلاء الذين يسفكون دماء دعاة الخير والحق، ويزجّون بهم في السجون وطوامير التعذيب بعد تشويه سمعتهم وتضليل الرأي العام بشأنهم: ألم يفعل إعلام يزيد ذلك مع الحسين عليه السلام؟ ألم يقولوا أنه خرج على الشرعية؟ وحتى الذين حاربوا الحسين بسيوفهم كانوا يؤدّون الصلاة (ويقولون هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا).
في الأسبوعين الماضيين شهدت البلاد موجة مكثفة من الاعتقالات والاستدعاءات للعشرات من الحسينيين الذين شاركوا بإحياء موسم عاشوراء كخطباء ورواديد ومعزّين. وقد اعتقل الكثيرون بسبب مشاركتهم في المواكب الحسينية وتسابقهم لخدمة المؤمنين خلال الموسم. وبثت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من أسماء هؤلاء المضطهدين الذين دفعوا فاتورة خدمتهم الإسلامية وعشقهم لسبط رسول الله الذي لم يراع يزيد له إلًّا ولا ذمّة، ولم يحترموا قربه من رسول الله. فما أشبه الليلة بالبارحة. وما أشد توحش عشاق الحكم وعبّاد المادة والمتزلّفين والمتسلقين والزاحفين نحو الباطل من أجل المال. وبلغ الأمر بأحدهم أن بادر برمي السهام نحو أصحاب الحسين قائلا: “اشهدوا لي عند الأمير، فأنا أول من رمى”. أليس هؤلاء مصداقا للآية الكريمة: “إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشّرهم بعذاب أليم”. هرع هؤلاء لإراقة الدماء الطاهرة في وضح النهار، وأرعبوا النساء والأطفال، وقطعوا رؤوس خيار البشر من العبّاد والزهّاد وقرّاء القرآن ومعلّمي الأطفال، لماذا؟ لعلهم يحصلون الجائزة، ولكنهم خسروا دنياهم وآخرتهم، وبئس المصير. هذا الصراع من أجل الدنيا لا يؤدي إلى خير، بل يكرّس الأزمات والهموم ويؤجج الصراعات من أجل حطام لا يدوم.
الاعتقالات الأخيرة في البحرين جاءت متناغمة مع إصرار أعداء الأمة على استئصال جذور الثورة والتمرد من نفوس الأحرار. فما تفعله حكومات الاستبداد من مصادرة الحريات العامة واستهداف العناصر المطالبة بالتغيير إنما ينسجم مع ما تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلية من إجرام واستضعاف واستكبار. فالكيان القائم على الاحتلال لا يشعر بالأمن أبدا، لذلك يسعى للاستمرار في حالة التأهب القصوى تحسبا للغضب المختزن في نفوس ضحاياه عندما يتفجّر. فالقتل المتواصل داخل الأراضي المحتلة والاستخدام المفرط للتكنولوجيا في استهداف العناصر القيادية لحركات النضال والمقاومة، يعني استمرار حالة التوتر والغموض في المنطقة. المشكلة وجود سياستين متناقضتين: إسرائيلية وعربية. فالإسرائيليون يعتبرون أنفسهم في حالة موةاجهة مستمرة ليس مع الفلسطينيين فحسب بل مع كافة القوى الوطنية والتقدمية التي ترفض الاحتلال وتصر على حق الشعوب في الحرّيّة والنماء والاستقلال. حالة التأهب هذه تجعلها مستعدة لممارسة العدوان في أية لحظة ويقلل اهتمامها بالقوانين الدولية والبورتوكولات الدبلوماسية. فهي تخترق أجواء البلدان العربية لاستهداف الأفراد والمجموعات المناوئة للاحتلال. وهي تمارس ما يسمى “القتل خارج القانون” بدون تردد، لعلمها ان النظام الدولي عاجز عن معاقبة ما يمارس ذلك. وهي طامعة دائما في السيطرةعلى الكعكة كاملة وتستهدف من يسعى لمشاركتها.
وبالإضافة لذلك سعت قوات الاحتلال، بدعم أمريكي خاص وغرب عام، لضمان التفوق العسكري على الجانب العربي الذي ركن للهدوء والابتعاد عن الصراع. فما قامت به قوات الاحتلال الإسرائيلية في الأسبوع الماضي من استهداف قيادات المجموعات المسلحة التي تواجه الاحتلال لم يكن مفاجئا بل كان استمرارا لنمط من التعامل المتوحش مع الآخرين. فقد استهدفت لبنان وقتلت فؤاد علي شكر، أحد قياديي المقاومة. واستهدفت إيران علنا لتغتال إسماعيل هنيّة الذي كان في طهران لحضور مراسم تنصيب الرئيس الذي انتخب مؤخرا. هذه العمليات تهدف لأمور ثلاثة: أولها التخلص من رموز المقاومة للاحتلال، وثانيها: إدخال الرهبة في نفوس المجموعات المقاومة وعناصرها، وثالثها: بسط النفوذ الإسرائيلي على المنطقة بإزالة العناصر القويّة الرافضة للاحتلال. ولا شك أن هذه الاغتيالات ضربات موجعة ولكنها ليست حاسمة. فالصراع العربي – الإسرائيلي موغل في القدم، وقد مرّ بمراحل يجمعها خيط واحد: رفض الاحتلال والعمل لتحرير فلسطين. وفي هذا الخضم كانت الأرواح تُزهق بدون توقف،خصوصا بالاغتيال فبعد حرب 1967 بدأ ما يسمى “حرب الاستنزاف” وتبعتها سياسة إسرائيلية جديدة باغتيال شخصيات فلسطينية كثيرة. وكان من أوائل ضحايا الاغتيال غسان كنفاني، الذي كان أيقونة للنضال والأدب الفلسطيني، إذ اغتيال في 8 يوليو 1972 بتفجير سيارته في بيروت، ومعه ابنة شقيقته “لميس”. وفي أبريل 1988 اغتال جهاز الموساد الرمز الفلسطيني خليل الوزير (أبوجهاد) في تونس. ثم جاء اغتيال صلاح خلف (أبوأياد) في يناير 1991 برصاص لم تُحدد هويته بدقة، وما إذا كان إسرائيليا أمن من جهة عربية. وفي أكتوبر 1995 حدث اغتيال فتحي الشقاقي في مالطا. وفي يناير 1996 تم اغتيال يحيي عياش في غزة. وفي أغسطس 2001 اغتيل الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أبو علي مصطفى، بصواريخ أُطلقت من طائرة إسرائيلية حربية أثناء تواجده في مكتبه في رام الله.
هذه بعض جرائم الاغتيال التي تعرض لها النشطاء الفلسطينيون على مدى أكثر من خمسة عقود، وما تزال مستمرة. والسؤال هنا: لماذا لم تخمد جذوة الثورة الفلسطينية برغم هذه الاغتيالات؟ أليس هذا تأكيدا بأن الشعب الفلسطيني قادر على تجديد دمائه برغم القمع والتسلط والاحتلال؟ فالشعوب المناضلة لا تُهزم بقتل رموزها أو اغتيالهم أو تغييبهم عن ساحات النضال والزج بهم في طوامير التعذيب. فلدى الشعوب غريزة التشبث بالحياة والتمرّد على الموت، وتستطيع عادة بناء كوادر النضال بدون توقف. ومن المؤكد أن القضية الفلسطينية تقدم أروع الامثلة لهذه الحقيقة. ولكن الشعوب المناضلة هي الأخرى قادرة على تجديد دماء قادتها ورفض الاستسلام لقوى البغي والاحتلال والاستبداد. وحكومة البحرين واحدة من أنظمة القمع والاستبداد التي تعتقد، خطأ، أنها تستطيع الاعتماد على القوة المفرطة لحمايتها من غضب الشعوب الثائرة. وتؤكد الوقائع أن الأمر مختلف جدًّا، وأن روح النضال لا تموت، وأن دماء الحرّيّة تحمي الشعوب من الموت تحت وطأة الاستبداد. هذه حقيقة أكدتها مرارا تجارب الشعب الفلسطيني، ونضال الشعب البحراني، فكلا النظامين باطل وظالم ومعتد ولا يستحق البقاء، بل ستظل دماء الأحرار تطارده بدون توقف، حتى تنتصر الإرادة الشعبية ويهزم الله المعتدين والمحتلين والظالمين والمستبدين.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد اسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
2 أغسطس 2024