النضال الوطني تؤججه سياسات الظلم والتعذيب والإعدام
تمر الأيام والسنوات تباعا، ولكن يبدو أحيانا أن التاريخ توقف عن الحركة، وأن قوى الاستبداد قرّرت مصائر الشعوب، وأنه لا أمل في مقارعتها او التصدي لطغيانها. ويمكن الإشارة إلى الوضع البحراني كمثال على ما يبدو من جمود للتاريخ. فما يجري اليوم إنما هو نسخة لما جرى قبل نصف قرن من اعتقالات وتعذيب وقتل وتشريد واستبداد. في الشهر الماضي تواصلت الاعتقالات التي طالت العشرات من بينهم شباب يافع دون الثامنة عشرة. وكما اعتاد الشعب منذ السبعينات، فقد تعرّض المعتقلون لمعاملة حاطة بالكرامة الإنسانية ولم يراع الجلادون في البحرانيين إلًّا ولا ذمّة. جاءت الاعتقالات بعد موسم عاشوراء الذي شهد حضورا جماهيريا واسعا وهتافات لا تخلو من إشارات مبطّنة للحكم الخليفي الذي يراه البحرانيون استمرارا للحكم الأموي اليزيدي. لذلك يبدو الوضع وكأنه صراع أجيال متعاقبة، حيث الطغيان هو الطغيان والظلم هو الظلم. وكما في الماضي فإن ضحايا هذا الطغيان الثلة المؤمنة المصرّة على انتهاج سبيل رسول الله والاهتداء بهديه والعمل لإقامة دينه. هذا ما فعله الحسن والحسين والأئمة والصالحون من بعدهما، وما يمارسه المؤمنون اليوم في كافة بقاع الأرض. إنه الصراع الأبدي بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر.
في هذه المعمعة تتواصل مشاعر الحزن والأسى في نفوس الفئة الصالحة التي نذرت نفسها لله واستصغرت الطاغوت. هذا التاريخ الجامد شهد مصارع الأبطال في كربلاء ومن هبّ للانتقام من قاتليهم. كما شهد تحوّل تلك القبور إلى مزارات يؤمها المؤمنون الراغبون في السير على نهج الأبطال المجاهدين. وما الجماهير المليونية التي تقطع الأميال مشيا على الأقدام من أجل الوصول إلى قبر الحسين لتستلهم منه معاني الإيمان والبطولة والفداء، إلا تجسيد لمفهوم النفرة التي ذكرها القرآن الكريم: وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومه إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”. فإذا كانت الفئة التي نهضت مع الحسين واستشهدت معه في كربلاء قد جسّدت عصارة العطاء النبوي متمثلا بالدين والقرآن والحديث، فإن هذه الفئة تتوسع بمرور الزمن لتصبح طوفانا بشريا يدخل الهلع في نفوس الطغاة من ورثة يزيد ومشروعه المعادي لمشروع محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام. ويكفي معاينة الطرق ا لمؤدّية ألى كربلاء لتتضح معالم النهضة الإنسانية السائرة على درب الحسين عليه السلام. وتمثل البحرين أنموذجا جيدا للنفرة الإيمانية التي تستمد جذورها من الإسلام ونبيه الكريم وقرآنه العظيم، وتستنشق عطر الشهادة من كربلاء لتتحول إلى حركة تغيير عملاقة يسترخص المشاركون فيها النفوس والأرواح ولا يعبأون بما يحل بهم من ويلات ومصائب، ولسان حال الواحد منهم يكرر كلمات علي الأكبر: لا نبالي إن وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا. هذه النفحة الكربلائية تضخ الروح في النفوس الميتة لتوقظها من السباب وتحركها على طريق التضحية والفداء آملة أن تُتوّج حركتها بالشهادة. أليست هذه الشهادة هي خلّدت الحسين وقضيته وساهمت في توسعها لتصبح شعارا يتردد في أرجاء الدنيا؟
الإيمان والثبات والتضحية والفداء كلها قيم تجسدت في كربلاء وبلغت ذروتها في العاشر من المحرّم من العام 61 بعد ا لهجرة، الموافق 12 أكتوبر من العام 680 بعد الميلاد. صحيح أن الذي جسّدها آنذاك كان إماما معصوما مفترض ا لطاعة، ولكنها قيم يستطيع أي إنسان أن يمتلكها فيتحول من عبد للدنيا وشهواتها إلى مؤمن صادق يدخل الرعب في نفوس الطغاة والمستبدّين، فإذا همهم يومًا أدخل الهلع في نفوس الحاكم المستبد الذي يحسب لمثل هذا الإنسان ألف حساب. فما الذي يمتلكه حسن مشيمع او عبد الوهاب حسين او الشيخ علي سلمان او الدكتور السنكيس وبقية الأسرى البحرانيين سوى الكلمة المستمدة من خطاب الحسين خلال نهضته التي غيّرت مسار الأمّة وكانت الفيصل بين الحق والباطل؟ إنه جانب من صراع الإرادات والسباق بين قريقين: أحدهما يصرّ على التشبث بالدنيا وزخرفها والآخر يبتغي ما عند الله فحسب. وما أكثر ما تكرر مشهد الصراع هذا عبر القرون السالفة، وما يزال يتجدد ويضع المرء أمام مسؤولياته. فالطغاة ما يزالون يطاردون الحسينيين ويحصون عليهم أنفاسهم، يعتقلونهم ويعذّبونهم ويعدمونهم. وفي الوقت نفسه ما يزال الحسينيون يحملون الراية ويهتفون باسم الله والإسلام والثورة. فالسجون تغص بسجناء الرأي في البحرين، يضاف إليهم كل يوم مجموعة من جنود الله، وفي السعودية لا يتوقف قطع رقاب الأبرياء، هنا يتم ذلك باسم الدين ومصطلحاته، فأغلب الضحايا ينحرون كالأضاحي بعنوان “التعزير” او “حد الحرابة”. لقد ضاعف السعوديون إجرامهم، فاستخدموا المصطلحات الدينية لسحق معارضيهم. منذ أكثر من قرنين وهم يستخدمون الدين لأهدافهم السياسية ويسعون للهيمنة على المسلمين بالتنمّر الديني، ولكن خاب مسعاهم ولن يحققوا ما يريدون لأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
مشهد الامة اليوم يبعث على الأسى والتقزز إذا تم النظر إليه من زاوية موازين القوى المادية فحسب، ولكنه يتغيّر جذريا أذا كانت هناك فئات مجتمعية هادفة للإصلاح والتغيير، بشرط أن تكون مستعدة للعطاء والتضحية. فمثلا، أصبحت المشاهد اليومية لما يجري في غزة باعثا للألم والقلق وربما اليأس من إمكان تغيير موازين القوى ووقف العدوان الإسرائيلي المتواصل على الأبرياء. ولكن هذه المشاهد مضى عليها أكثر من ثلاثة أرباع القرن، ولم يستطع ا لعدو حسم القضية لصالحه وتدمير فلسطين أو سحق أهلها. وربما حدث عكس ذلك. فقد تعاظم التعاطف الدولي مع ضحايا العدوان، وأصبحت القوة الإسرائيلية عاجزة عن حسم الموقف وغلق ملف القضية. فبعد 76 عاما لم يعد لدى المحتلين الجلد والصمود والتصدي للكيان الإسرائيلي. والنتيجة هنا أن ا لشعب الفلسطيني ما يزال موجودا بشكل فاعل، وما يزال العدو يحتاج الحماية الأمريكية والسلاح الذي تبعثه إدارة البيت الأبيض الى تل أبيب. فما سرُّ صمود هذه الفئة المغلوبة على أمرها؟ ولماذا عجز الكيان المدعوم من أمريكا وحليفاتها الأوروبيا عن الوصول ألى حالة من الأمن الدائم؟ وكيف يستطيع هؤلاء المحتلون الخروج من المحنة المستمرة منذ ثلاثة أرباع القرن، وأهم مصاديقها صمود الفتى الفلسطيني أمام دبابات الاحتلال وأدوات القتل لديه؟ إن ذلك الطفل الذي يتحرّك بين الخيام بحثا عن ملجأ أو وطن آمن أصبح شبحه يطارد زعماء الاحتلال وداعميهم في الغرب، ويتحدى شرعية حكام العرب الذين تجلببوا بالسكوت ولم ينتفضوا لنصرة المظلوم، وهو في أخوهم في الإنسانية والدين والعروبة.
مشاعر الأمل بانتهاء المحنة ليست ضربا من الخيال، بل هي تعبير عن صدق توجه الشعوب العربية وفي مقدمتها شعب فلسطين نحو الحرّيّة بالاعتماد على الله أولا وعلى الذات ثانيا. هذه المشاعر أصبحت تطارد المستبدّين والمطبّعين والخانعين، وألهمت شعوب العالم للانتظام في مسيرات الدعم والتاييد للحق الفلسطيني. وبموازاة ذلك أصبحت مشاهد القمع في العواصم العربية مثارا للسخط خصوصا في أوساط الشعوب العربية المحرومة. وقد سطّر شعب البحرين بملاحمه البطولية التي لم تتوقف منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما عندما خرج الشعب في ثورته الكبرى مطالبا بالتغيير الشامل. وبعد هذه الفترة الطويلة فشل الحاكم الخليفي في كسر شوكة المناضل البحراني بشكل كامل، فاستمرت التظاهرات والاحتجاجات واسترجع الشعب ثقته بربه وبنفسه وبحتمية النصر الذي قدّم من أجله التضحيات العملاقة. وعندما احتفى الشهر الماضي بمرور خمسة أعوام على إعدام ثلاثة شباب أبرياء، أحمد الملالي وعلي العرب وشخص ثالث من بنغلاديش، كان الغضب يملأ نفوسهم والأمل يحدوهم بحتمية الخلاص من نظام حكم دموي يقتل الأبرياء ويعذب المناضلين. ستتواصل هذه المشاعر الجيّاشة من أجل التغيير حتى ينتصر الشعب على العصابة الخليفية ا لمجرمة بعون الله تعالى.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
23 أغسطس 2024