صمود السجناء بعد 14 عاما يرغم الخليفيين على الإفراجات
حقّق سجناء الرأي المظلومون انتصارا ساحقا على الاستبداد والطغيان، وشعر الخليفيون بالهزيمة السياسة والأخلاقية، فأرغموا على إطلاق سراح أغلب الأسرى البحرانيين الذين قضوا شطرا طويلا من عمرهم في طوامير التعذيب بدون رحمة إو إنسانية. خرج هؤلاء وكل منهم يحمل معه ذكريات تتراوح ما بين الشعور بالعزة والكرامة والنصر، وذكريات المعاناة والتنكيل وما لحق بهم وبعقائدهم من شتم ولعن لم يتوقف من جلاوزة الطاغية. لقد شعر الديكتاتور وعصابته بعزلتهم السياسية والأخلاقية عن الوطن والشعب، فأقدموا على شرب كأس السم وفتح أبواب السجون ليخرج أبطال الوطن مكللين بالنصر. فطوبى لهؤلاء الأحرار وتبريكاتنا لأهلهم الذين كان صبرهم تعجز عن تحمّله الجبال الراسيات.
وقد تعمّد الطاغية الاستمرار في سجن الأحرار خصوصا رموزهم الكبيرة. وعما قريب سيكمل رموز الشعب المسجونون أربعة عشرا عاما وراء القضبان، وما يزالون ثابتين على عهدهم مع الشعب. وما يزال السجّان يهدّد أمن البلاد والعباد، تارة بالاعتقالات التي شملت في الفترة الأخيرة أطفالا، وأخرى بتجاوز البحرانيين في مجال التوظيف وفتح الباب على مصراعيه للعمالة الأجنبية، وثالثة بالتنكيل بالعلماء واضطهادهم ومحاولة إبعاد الجماهير عنهم. وما تزال البلاد تعيش أجواء الرعب من نظام يسعى للقضاء على هوية البلاد وشعبها بأية وسيلة، ويمد جسوره مع أعداء الأمة، ويحاول فرض واقع جديد من التطبيع على البلاد. وبذلك أوصل الوضع إلى حالة من الاستقطاب السياسي والأيديولوجي غير مسبوقة. فقد دأبت الشعوب العربية قاطبة على رفض الاحتلال ودعم فلسطين وأهلها، وفجأة برزت ظاهرة التطبيع بشكل مقرف، وبدأ الغربيون وبعض حكام العرب فرضها على المنطقة كواقع. هذه المحاولات تزامنت مع اضطهاد تجاوز الحدود لأهل فلسطين، يتمثل بالقتل وإبعاد أهل غزة عن مناطقهم وطردهم من منازلهم. وهنا برزت ظاهرة اللاجئين مجددا خصوصا على الحدود بين غزة ومصر. هذه الحقائق وقف البحرانيون ضدها، كما هي كافة الشعوب العربية.
رموز الوطن والشعب الرازحون في السجون الخليفية شعروا منذ سنوات بخطر الوضع البحراني المدفوع نحو التطبيع، وكذلك بالأوضاع المزرية للشعب الفلسطيني. فأصدروا البيانات الداعمة لفلسطين وشعبها، ودعموا حقهم في تقرير مصيرهم، وعبّروا عن سخطهم لما تقوم به العائلة الخليفية من تطبيع مع العدو. أربعة عشر عاما من السجن والاضطهاد لم تغيّر قناعات هؤلاء الأبطال الذين رفضوا التنازل عن مطالب الشعب. ونظرا للضغوط الداخلية والخارجية على الطاغية ودعوته لإطلاق سراح السجناء السياسيين بعد هذه الفترة الطويلة، فقد أصبح يبحث عن أساليب للإذعان لتلك المطالب مع حفظ ماء الوجه. وما كلامه عن “السجون المفتوحة” و “العقوبات البديلة” إلا عناوين لتلك المحاولات. وحيث أن الكثير من السجناء وعائلاتهم رفضوا ذلك وأصروا على الخروج من السجن بشكل كامل ووبدون مقدمات او شروط او عناوين، فقد وجد الطاغية نفسه في حرج وراح يبحث عن عناوين أخرى لتقليص عدد الرهائن في سجونه. جاءت الضغوط من المواطنين الذين خرجوا في مسيرات كثيرة تطالب بالافراج عن السجناء، ومن المنظمات الحقوقية الدولية التي تطالب بتبييض السجون بشكل كامل مؤكدة أن نزلاءها إنما هنم “سجناء الرأي” وليسوا مجرمين. وجاءت تلك الضغوط أيضا من عدد من الحكومات الداعمة للخليفيين، بعد أن أدركت مدى الفجور في الخصومة في القاموس الخليفي. وبعد قرابة الأربعة عشر عاما كان متوقعا أن يلعق الطاغية كبرياءه ويبحث عما يحفظ ماء وجهه.
مشكلة الحكم الخليفي هذه المرة أن إمعانه في الاضطهاد عمّق أزمته ولم يساعده على تخطّي مضاعفات ثورة 14 فبراير. وبذلك غرس البذور لثورة أخرى لن تتأخر طويلا. فلم يعد هناك ما يربطه بالبحرانيين الأصليين (شيعة وسنة). فلم يترك موبقة بحق الشعب إلا ارتكبها، من اضطهاد وسجن وتعذيب وقتل وإعدام وإبعاد. فما الذي بقي من وشائج العلاقة بين الطرفين. ما الذي يدفع البحراني الأصلي للإذعان للحكم الخليفي الذي يعرف أنه سوف يواصل اضطهاده وتنكيله من جهة وسعيه المتواصل لتغيير البلاد وهويتها وشعبها من جهة أخرى. وفي السنوات الأخيرة شعر المواطنون السنّة بخطر التجنيس السياسي الذي مارسه الطاغية، وأنهم أصبحوا مجبرين على دفع فواتيره اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا. فالشعوب لا تستجيب لسياسات الهندسة الديمغرافية، ولا تقبل بتغيير وشائجها الاجتماعية والثقافية بأية وسيلة، وان القمع والاضطهاد وكافة أساليب الاستضعاف والابتزاز كلها أساليب استخدمت سابقا ولم تنجح في كسر شوكة الشعب، وليس هناك من الظروف ما يجعلها اليوم أقدر على تحقيق النجاح. وثمة بعد آخر للأزمة، أن تجربة الأربعة عشر عاما الأخيرة أكسبت الشعب مناعة ضد أساليب التضليل والتشويش، ولم يعد هناك خوف أن يتراجع عن انتمائه الديني والفكري والسياسي. فقد صاغت دماء شبابه أنماط حياته وقناعاته وأصبح أكثر إصرارا على التغيير. إن لدى الشعب مناعة ضد أساليب التضليل والتشويش ولن يستجيب لمحاولات النظام في هذه الجوانب.
إذن هناك ثلاثة عناوين عريضة تمثل بمجموعها استحالة غلق ملف الثورة والانتفاضة والحراك السياسي الذي استمر منذ العام 1922. وهذه العناوين لن يستطيع الحكم الخليفي قمعها أو تجاوزها وهي كما يلي:
أولا: أن الشعب أصبح أكثر ثقة بنفسه وأعمق إصرارا على مطالبه وأقل خشية من قدرة الحكم الخليفي على سحقه. وهذا يعني أن الاسباب التي تضافرت لتفجر ثورة 14 فبراير وقبلها انتفاضة التسعينات ما تزال قائمة، خصوصا مع فشل الطاغية في القيام بأي إصلاح سياسي يذكر، لاعتقاده بأن ذلك سوف يظهره ضعيفا أمام الشعب والعالم. وهذا تفكير خاطيء لا ينسجم مع الثقافة الهادفة لبناء دولة عصرية تعتمد على شعبها لحمايتها. هذه الثقة بالقوة الذاتية ستكون حاضرة في أوساط الشعب بشكل دائم، وستنفجر غضبا عندما تتوفر الظروف لذلك.
ثانيا: أن الحكم الخليفي لم ينجح إلا في أمر واحد: تعميق شعور العداء تجاهه في الاوساط الشعبية. فملف الاضطهاد الذي مارسه الخليفيون بحق الشعب خصوصا في السنوات الأربع عشرة الأخيرة مفعم بالحقائق الدامغة التي تؤكد استحالة التعايش بين الطرفين. وهكذا أصبح التغيير محفورا في ذاكرة الشعب ومكتوبا في تاريخ الوطن بدماء الشهداء. ويكشف هذا العداء سياسات الحكم إزاء المشاعر الدينية للمواطنين. فما حدث في موسم عاشوراء الأخير من اعتقالات استباقية قبل بداية الموسم، ومنع دخول الخطباء من الخارج او المعزّين من دول الخليج الأخرى، أو منع الخطباء والرواديد البحرانيين من السفر إلى بلدان أخرى للمشاركة بإحياء الموسم، كل ذلك عمّق ليس مشاعر الغضب فحسب، بل الإحساس بالغربة المطلقة بين الطرفين. لقد حقق الطاغية بأساليب قمعه عكس ما يأمله من تخويف الشعب او تركيعه. فلم يعد هناك اليوم بحراني شريف واحد يقبل باستمرار الحكم الخليفي الذي ارتكب أبشع الجرائم بحق الوطن والشعب. فما الذي جناه الطاغية وعصابته؟
ثالثا: أن الحكم الخليفي فقد المصداقية أمام الجهات الدولية التي يتعامل معها ويسعى لشراء مواقفها بالأموال. ففي نظر هذه الجهات فإن الخليفيين انتهازيون بلا حدود، ومضلّلون بكل المعاني، وهي امور لا تستقيم مع المنطق الهادف لإقامة منظومة حكم حديثة. أما المنظمات الدولية فقد أدركت مدى القمع الخليفي منذ الأيام الأولى للثورة عندما منع الطاغية المنظمات الحقوقية الدولية من زيارة البلاد للاطلاع على ما يجري فيها. ولذلك جاءت توصيات خبراء الأمم المتحدة الأخيرة صفعة مؤلمة للديكتاتور الذي يتظاهر بقوته وعدم احتياجه لتلك الجهات الحقوقية والسياسية الغاضبة. وبذلك أصبحت مهمة معارضة الخليفيين أقل صعوبة وأكثر يسرا. فالجهات الحقوقية والإعلامية الدولية تدرك حجم القمع الذي يمارسه نظام الحكم بحق مواطنيه. وجاءت الإفراجات الأخيرة لتؤكد عزلة الطاغية وعصابته وانتصار الشعب.
إن فقد المصداقية بهذا المعنى يمهد الطريق أمام دعاة التغيير للاستمرار في النضال على أمل أن يسترد هذا العالم شيئا من قوته التي تساعده على إرغام الخليفيين على امور عديدة: أولها إطلاق سراح السجناء السياسيين جملة وتفصيلا، ثانيها: إجباره على القيام بإصلاحات سياسية ذات معنى لتلبية بعض المطالب الشعبية، ومن المتوقع ان يسعى الطاغية للالتفاف على ذلك أو محاولة إظهاره وكأنه تعبير عن رغبة خليفية في الإصلاح. ثالثها: تهيئة الأرضية لمقاضاة بعض رموز الحكم خصوصا الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية بحق المعتقلين السياسيين. هذه حقائق لن يستطيع الخليفيون تجاوزها، وسوف تظهر الحقبة المقبلة مصاديق ذلك.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد اسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
6 سبتمبر 2024