على طريق الصمود ضد الاستبداد والاحتلال .. النضال الطويل من أجل الحرّيّة
مجددا تدخل منطقتنا مرحلة صعبة غير واضحة المعالم او النتائج. فما يحدث في منطقة الشام لا يمكن منع انعكاساته على منطقة الخليج، فالشعوب تتبادل الإحساس بالألم ولا تستطيع تجاهل ما يعانيه إخوتهم في البلدان المجاورة. ولا يمكن تجاهل العدوان الأخير الذي قامت به قوات الاحتلال بحق أهل لبنان، حينما مارست بحقهم جرائم جماعية مستغلة قدراتها التكنولوجية المدعومة من أمريكا. فتفخيخ الهواتف والبيجرات كان مفاجئا، ولذلك كانت آثاره مدمرة، فقد استشهد نتيجة ذلك التفخيخ العشرات وجرح الآلاف، وما يزال المئات منهم في حالة حرجة. وكان رد الفعل في العالم العربي ولدى الشعوب الأخرى يتسم بالغضب والتقزز، وتعمق الإحساس بخطر الكيان الإسرائيلي على أمن المنطقة واستقرارها. لقد كان استهدافا جماعيا بدون وجود مبرر مباشر. وربما الأشد من ذلك تردد الأطراف السياسية الدولية عن شجبه وتجريمه، الأمر الذي يوحي بأن هناك موافقة ضمنية لاستخدامه، برغم ما لذلك من انعكاسات أمنية أخلاقية ليس على المنطقة فحسب، بل على العالم الذي يبدو عاجزا عن الدفاع عن المظلوم والتصدي للظالم.
الأمر الواضح أن الصراع في المنطقة سوف يتواصل بشكل أشد في الحقبة المقبلة بعد ان أصبح الطرفان يعيشان هاجس الصراع بين الوجود واللاوجود، وأن استمرار حالة اللاسلم واللاحرب لم تعد مناسبة للوضع. فقد تحوّلت إلى حرب استنزاف متواصلة كما حدث بعد حرب 1967، وأدرك الطرفان، الإسرائيلي والعربي، أن حرب الا ستنزاف مكلفة وليس لها نهاية، فجاءت حرب أكتوبر 1973 لتنجز واقعا جديدا عمل الغربيون لتوجيهه نحو إبرام اتفاقات كامب ديفيد. هذه المرة أيضا وصلت الأمور إلى حالة من الجمود بين الطرفين، فكان لا بد من كسر هذا الجمود. الإسرائيليون لا يستطيعون العيش وسط الغموض والانتظار. فمنذ فترة طويلة كانت المناطق المحتلة في شمال فلسطين تشهد مناوشات يومية بين المحتلين الإسرائيليين وقوات المقاومة على الجانب اللبناني، وقد تم إجلاء الآلاف من العائلات التي تستوطن شمال فلسطين، وبقيت مصدر إزعاج لحكومة نتنياهو. فجاء القرار الإسرائيلي بالتصعيد الذي يهدف لإنهاء وجود المقاومة قريبا من الحدود، ويسعى المحتلون لإقامة شريط عازل داخل الجنوب اللبناني كما فعلوا سابقا، على أمل يعيش المستوطنون بأمن واستقرار. ولكن هناك الكثير من التساؤلات حول مدى قدرة الاحتلال على تحقيق ذلك.
ثمة حقائق تتصل بهذا الشأن، يجدر ذكرها، منها ما يلي:
أولا: أن هذا “الاختراع” استعراض للقوة وتعبير عن الشعور بعظمة وهمية وتفوق تكنولوجي مدعوم من بعض الأطراف الغربية خصوصا امريكا. فتفخيخ الهواتف والبيجرات يمثل رسالة خطيرة بأن المحتلّين مستعدون لاستخدام أسلحة الدمار الشامل من جهة، وعسكرة أدوات التواصل الاجتماعي وعدم استبعاد تسميم الأنهار وربما العبث بالسحاب لكي يمطر الحمم على الآخرين. ويجب أن لا يُحصر التفكير بالجوانب التكنولوجية التي يمكن أن تشمل إمدادات الكهرباء والغاز والماء وأسلاك الهواتف والمجاري المائية. فالتكنولوجيا الامريكية أصبحت مشاركة في التخطيط لصالح الاحتلال، وتوفير أدوات القمع والاضطهاد والقتل الجماعي وذلك من أجل إعادة الأمن لنظام احتلال لم يستطع تحقيق ذلك منذ أن فرض نفسه فلسطين قبل ثلاثة أرباع القرن.
ثانيا: أنه تعبير عن فشل إنساني وأخلاقي ودبلوماسي، وشعور بالحصار السياسي، نتيجة توسع دائرة الاهتمام بالمسالة الفلسطينية ومعها القضايا المرتبطة بأمن الشرق الأوسط. فلو كان الإسرائيليون قادرين على الخروج من شرنقة الاحتلال والتحول إلى كيان سياسي مقبول إقليميا ودوليا لما أقدموا على تفعيل سياسات الاستهداف الجماعي والقتل العبثي والإجرام غير المحدود. هذا الفشل من شأنه أن يدفع الصهاينة للمزيد من الجرائم مستقبلا. فهم يعتقدون أن كيانهم سوف يزول إذا تكررت انتكاساتهم وهزائمهم العسكرية. وقد حافظوا على تفوق احتلالهم عسكريا ومارسوا أساليب نفسية لكسر معنويات الفلسطينيين وداعميهم من المقاومين بعمليات عسكرية واسعة النطاق من جهة وتصعيد عمليات الاغتيال داخل الحدود وخارجها، ويمكن تصنيف ذلك ضمن الحرب النفسية التي لم يستطع الاحتلال تحقيقها. وبهذا ستكون الإنسانية مهدّدة بشكل حقيقي في أمنها ونظامها الدولي والمؤسسات الدولية التي تحقق مفهوم العمل الجماعي والتعاون الأممي من أجل السلام والعدل. فإذا فشلت الامم المتحدة في فرض النظام والدفاع عن الطرف المظلوم (وهو الشعب الفلسطيني) فسوف يشعر قادتها بفشل مهمتهم الانسانية المتمثلة بخلق وجود دولي يتمثل بالأمم المتحدة.
ثالثا: أن استخدام العقاب الجماعي الشامل مرشح للانتقال من عالم التكنولوجيا البحت إلى عالم أسلحة الدمار الشامل. فلدى قوات الاحتلال الاستعدادات النفسية والتكنولوجية، بما في ذلك الأسلحة النووية والجرثومية، وهي جاهزة للاستخدام ضد الدول والشعوب العربية والإسلامية. وفي غياب الجهات الدولية القادرة على ردع العدوان والتصدي لعقلية القتل الجماعي المختزنة في نفوس الساسة الإسرائيليين وعقولهم، فإن تكرار ما حدث ليس مستبعدا أبدا. هذه المرة سيكون التصعيد خطيرا على أمن البشر وتهديدا بإعادة أجواء ما جرى في خنادق الحرب العالمية الأولى عندما استخدمت الأسلحة الكيماوية على نطاق واسع. ويُفترض أن ذلك الاستخدام قد ساهم في إقامة منظومة دولية فاعلة تجرّم هذا الا ستخدام وتعتبر مستخدميه خارجين عن الإرادة الدولية ومرتكبين لجرائم ضد الإنسانية. فإذا استخدمت “إسرائيل” الأسلحة المحرّمة دوليا ومن ذلك أسلحة الدمار الشامل، فستكون كيانا مارقا من وجهة النظر الدولية وقد يجد رئيس وزرائها نفسه واقفا في قفص الاتهام لارتكابه جرائم ضد الإنسانية.
رابعا: أن استهداف لبنان وشعبه مؤشر لاستعداد قوات الاحتلال لتوسيع دوائر الصراع، فليس هناك دولة عربية بمنأى عن الاستهداف، بما في ذلك مصر والأردن وسوريا والعراق. فالعدو الاسرائيلي يعتبر العالم العربي عدوا وجوديا. كما أن فشله في إبادة الشعب الفلسطيني بعد ثلاثة أرباع من سياسات الإبعاد والتصفية بالإضافة إلى الاستهداف العسكري يدفع قادته للشعور بالإحباط الذي يؤدي لتوسيع دوائر الاستهداف ويضعف دور القوانين والمواثيق الدولية، أو الخشية من ردود فعل إقليمية ذات معنى. فالكيان الإسرائيلي يبحث عن حرب محدودة لكي تكون قواته في حالة من الجهوزية ما يجعلها يقظة ومستعدة لرد أي استهداف من خارج الحدود. أما داخل الأراضي الفلسطينية فيعتقد الاحتلال أنه قادر على احتواء مشاعر الغضب لدى الفلسطينيين وبالتالي ردعهم عن التمرد والنهوض ضد الاحتلال.
خامسا: يشعر الاحتلال الإسرائيلي أن دوائر المقاومة تتوسع باضطراد، وأنه عاجز عن التوصل إلى تسوية تحاصر تلك المقاومة. فبرغم امتداد الزمن لم تضعف المشاعر الشعبية الرافضة للاحتلال والداعمة لفلسطين. تلك المشاعر ليست محصورة بالعالم العربي، بل أصبحت جزءا من نضال الشعوب الآخرى في أفريقيا وأمريكا اللاتينية التي تناضل من أجر الحرية وضد الهيمنة الأمريكية، وترى في الاحتلال امتدادا لتلك الهيمنة. وبرغم البعد الجغرافي عن المنطقة، فإن تلك المجموعات المناضلة استمرت بدعمها أهل فلسطين الذين تعتبرهم الضحية الكبرى للاحتلال الإسرائيلي. إن وجود المقاومة الفلسطينية مؤشر للمزيد من الوعي بمهمة التغيير، وأن ذلك التغيير لن يحققه غيرهم. لقد اكتسبت قوى المقاومة خبرة طويلة في مجال التصدي للاحتلال، وأدركت مدى حرصه على اختفاء هذه المنظمات، وحصر المقاومة بالمجموعات الصغيرة التي أصبحت هي الأخرى مستهدفة من حكومات بلدانها التي طبّعت مع الاحتلال.
سادسا: أن الجرائم الأخيرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في فلسطين ولبنان ستدفع الفئات المتعلمة ذات التوجهات الوطنية والنضالية للتوجه نحو البحث العلمي والتطوير التكنولوجي للتصدي للتكنولوجيا الإسرائيلية. سيكون هناك دفع وضغط على دوائر البحث العلمي المرتبطة بالدوائر العسكرية على وجه الخصوص لتوسيع مجال التطوير التكنولوجي والقفز على الزمن لضمان الوصول إلى مواقع متقدمة في البحث والتصنيع لرفد الأطراف المقاومة بوسائل التصدي وحرمان الاحتلال من احتكار التكنولوجيا لنفسه. فالاستراتيجية العسكرية يجب أن لا تؤسس بلحاظ ما هو متوفر في الوقت الحاضر من سلاح وعتاد لدى الأطراف العربية، بل أن الأمر يتطلب دعم البحث العلمي على وجه السرعة ورفده بوسائل التصنيع المرتبطة بالحقل التكنولوجي لتحقيق توازن فعلي في الجانب العسكري. فالتطوير التكنولوجي أمر ممكن برغم الحصار والملاحقة والتضييق على الأطراف العربية والإسلامية بما في ذلك الدول نفسها.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
20 سبتمبر 2024