بيانات حركة أحرار البحرين

خمسة تجلّيات لقضية فلسطين تتطلب تفاعلا شعبيا واسعا

هاهي أرض المعراج ما برحت تتألق بدمائها وجراحها وضحاياها وقيمها. فكل ما فيها يتحول تدريجيا إلى ذروة قيمية تساهم في هزيمة من يسومها العذاب ويسعى لتدميرها وتغيير ملامحها. فبرغم مرور أكثر من ثلاثة أرباع القرن ما تزال قلعة صامدة تتحطم أحلام الغزاة على بواباتها، فإن أصرّوا على البقاء وجدوا أنفسهم في بحر من الدماء وجو خانق لا يساعدهم على التنفس. أما هي وأهلها فقد صدق قول القرآن الكريم بشانهم. فقد بارك الله كل ما حول المسجد الأقصى، وهذه البركة أفاضت على أهلها حق الحياة والسعادة والشموخ، فتحوّلوا إلى معلمين للعالم ورموز لحريته وعمالقة أحياء لا يموتون برغم القتل والتدمير ليس من قوة محتلة غاشمة فحسب، بل من عالم تواطأ معها وأمدها بالمال والسلاح. وثمة تلازم بين فلسطين وعدد من الظواهر المتصلة بها، ومن ذلك ما يلي:
 
أولا: لولا فلسطين لما عرف العالم حجم التوحش الصهيوني الذي لا حدود له. هذا التوحش، برغم التعتيم الغربي الممنهج، يخترق الحدود ويصل ألى أقصى زوايا العالم، فإذا التظاهرات تهتف بحياتها في كل القارات. وفي عالم تنتشر فيه وسائل التواصل الاجتماعي فإن التعتيم الغربي يعجز عن حجب الحقيقة. فما من هاتف ذكي إلا وينقل لصاحبه يوميا مشاهد القتل التي يمارسها الإسرائيليون والتي تزداد قسوة وسادية كل يوم. حتى أصبح مستعصيا على زعماء الدول الكبرى تجاهل الجرائم الاسرائيلية، وأصبح هذا الكيان الذي غرزوه في جسد الأمة عبئا عليهم، فتداعت سمعة “العالم الحر” و هوت مقولات “الديمقراطية” التي طالما تشدقوا بها. وساهم ذلك في كشف حقيقة الصهاينة وانسلاخهم من الإنسانية بشكل كامل وتحولهم إلى وحوش مفترسة تتلذذ بتقطيع أجساد الأطفال وتدمر الأبراج على رؤوس ساكنيها وتستهدف المستشفيات والمدارس والمساجد والملاجيء. إنها واحدة من الحقب التاريخية التي أظهرت حقيقة حكام الاحتلال ومدى انسلاخهم عن الإنسانية والأخلاق والقيم.
 
ثانيا: ما تقدم يقود إلى استنتاج مهم، وهو حتمية سقوط المشروع الصهيوني، ولكن هذه المرة، سيكون الغرب معه في هذا السقوط. فالقوة العسكرية وحدها لا تكفي لبقاء الأنظمة والايديولوجيات، ما لم يدعمها مشروع أخلاقي وقيمي ذو نزعة إنسانية وعدالة. وقد اتضح لمن يريد ان يفتح عينيه على الحقيقة مدى ما بلغه المشروع الصهيوني من عنف وساديّة وظلم. ويكفي معاينة مشاهد الدمار في غزة وجنوب لبنان لاكتشاف هذه الحقيقة. ولا يغيب عن الذاكرة مشهد تدمير مستشفى الشفاء وقتل أكثر من 400 ممن كان فيه من المرضى والطواقم الطبية. وقد أصبحت مشاهد انتشار أشلاء الأطفال من حطام المباني السكنية مألوفة. ويصّر الغربيون على تجاهل تلك المشاهد والحقائق، بل أن وزيرة الخارجية الألمانية صرحت هذا الأسبوع بدعمها ما تمارسه قوات الاحتلال من قصف وتدمير وقتل قائلة أن من حقها قتل المدنيين. وفشل الغربيون في اتخاذ مواقف ترفض ذلك العنف أو تطالب بوقف إطلاق النار، أو تدعو لانعقاد جلسة خاصة لمجلس الأمن الدولي لإجبار “إسرائيل” على وقف عدوانها المتواصل على المدنيين. والأنكى من ذلك أنهم مستمرّون في تزويد الاحتلال بالمزيد من الأسلحة للاستخدام ضد الفلسطينيين.
 
ثالثا: أصبح الضمير الإنساني مصدوما بما يراه من نفاق دولي غير مسبوق إزاء ما يجري في غزة. ففي الوقت الذي وقف الغربيون ضد روسيا بعد اجتياح أوكرانيا، ووجهوا الجهات القضائية الدولية لإصدار مواقف ضد الرئيس الروسي لم يبدوا حماسا لاستهداف رئيس الوزراء الإسرائيلي قضائيا. بل على العكس من ذلك، وقفوا ضد قرار محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت دعوة لاعتقال بنيامين نتنياهو، مهندس العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين. إنه نفاق مقيت لا يعمّق الثقة بين الثقافات والسياسات والتوجهات في هذا العالم. فإذا لم يتغير الموقف الدولي ويصبح أكثر مبدئية وجدّيّة في التعاطي مع العدوان الإسرائيلي، فسيكون النظام السياسي الدولي محفوفا بالمخاطر وأهمها التصدع وتعمق شعور المظلومين في هذا العالم بالظلامة. وهكذا يساهم الغربيون في إعادة بناء عالم شبيه بالعالم الذي شهد الحربين العالميتين اللتين دفعت الشعوب ثمنا باهضا خلالهما.
 
رابعا: مرة أخرى أظهرت حالة اللامبالاة لدى أنظمة الحكم العربية مدى تراجع الشعور بالمسؤولية والواجب لدى تلك الأنظمة. وظهرت الجامعة العربية وكأنها جسد ميّت لا يقوى على الحراك. وكان المفترض ان يتحرك هذا الكيان الجامد للخروج من جموده وتبنّي قضية فلسطين بشكل جاد، ودفع الحكومات العربية لإصدار بيان يؤكد التضامن والدعم لفلسطين وأهلها خصوصا سكان غزة الذين يشعرون بالخذلان العربي أكثر من أي وقت مضى. إن تخلّي الجامعة العربية عن مسؤولياتها الإنسانية والقومية يساهم في تهميشها وشطبها من قاموس العمل العربي المشترك الذي لم يتحقق حتى في أحلك الظروف. الجامعة تستطيع التوافق على موقف مشترك يدعو لوقف التطبيع مع كيان الاحتلال أولا، وإلى الضغط على الولايات المتحدة لوقف دعمها الاحتلال من جهة ثانية، وتقديم الدعم المادي للفلسطينيين ثالثا، وتهديد “إسرائيل” بمقاطعة اقتصادية وسياسية شاملة إذا أصرّت على الحرب والعدوان والتوسع ثالثا. لو فعلت الجامعة العربية شيئا من ذلك لاستعادت بعض مصداقيتها التي فقدتها في العقود الأخيرة بسبب غيابها عن المشهد وابتعادها على الخوض في الشؤون الحيوية للشعوب العربية. إن غياب التضامن العربي مع فلسطين ومسايرة سياسات بعض الدول التي تصدّرت مشروع التطبيع مع العدو وأقامت العلاقات معه، من أسوأ ما تعانيه أمتنا التي تتعرض لتحديات تتصاعد يوميا. هذا الخنوع الرسمي سيكون سببا مهما لتحرّك الشعوب مجددا من أجل التغيير الذي يبدأ يإصلاح النظام السياسي العربي وذلك باستعادة الشعوب دورها في صنع القرار والحفاظ على السيادة الوطنية والقومية واحتضان قضية فلسطين مجددا.
 
خامسا: في مقابل هذه الظواهر السلبية لدى الأطراف ذات الصلة بقضايا الامة يبرز الشموخ الفلسطيني في أروع مظاهره. فبرغم العدوان الذي تمارسه قوات الاحتلال بدعم أمريكي وغربي غير محدود، ما يزال أهل غزة يرفضون الاستسلام ويصرّون على الدفاع عن أنفسهم ولملمة جراحهم وتقديم التضحيات بدون حدود. فحين تعتبر الأم المفجوعة استشهاد ابنائها فداء لفلسطين وتتضرع إلى الله أن يتقبل تلك القرابين، فإن ذلك يعبّر عن إيمان مطلق بعدالة القضية من جهة والاستعداد للتضحية من أجلها ثانيا واعتبار ذلك نوعا من العبادة التي تقرّب إلى الله ثالثا. هذا الشموخ أيقظ مشاعر الكبرياء والفخر والشرف في نفوس قطاعات واسعة من أبناء الأمة، فخرجت المظاهرات الداعمة للمقاومة المشروعة والمندّدة بالخنوع والتواطؤ الرسمي العربي، وعقدت الندوات والمؤتمرات داخل البلاد العربية وخارجها، ورُفعت الدعوات والصلوات في المساجد من أجل فلسطين. لقد رأينا رؤساء دول في أمريكا الجنوبية يتظاهرون دعما لغزة وضد الاحتلال الإسرائيلي، كما فعل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. كما خرجت تظاهرات الدعم لفلسطين في أغلب عواصم العالم برغم التضليل الإعلامي المقيت.
 
هذه الحقائق تؤكد أن قضية فلسطين لا تستطيع “إسرائيل” القضاء عليها مهما استخدمت من قوة وأساليب قمع وقتل واغتيال. وإذا كان الحكام العرب قد خذلوها بوقاحة، فشعوب العالم وبعض حكامه صدقوا مع إنسانيتهم وأصرّوا على دعم فلسطين وأهلها بدون تردد. لقد هيمنت القضية على مشاعر الشعوب اليقظة وحاصرت كيان الاحتلال وداعميه، وفرضت واقعا تحرّريا يدفع الشعوب للمطالبة بحرّيّتها وحقوقها على أوسع نطاق. وبرغم أساليب القتل والاغتيال التي تمارسها قوات الاحتلال، فإنها أعجز عن إنهاء القضية بالضربة القاضية. وبعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن، أصبح العالم على موعد مع انتصار فلسطين وشعبها وهزيمة محتلّيها بشكل ماحق، وما ذلك على الله بعزيز.
 
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
 
حركة أحرار البحرين الإسلامية
18 أكتوبر 2024
زر الذهاب إلى الأعلى