عام آخر في حياة الشعب، رسمت دماء الشهداء ومعاناة المعتقلين معالمه
في الشهور الثلاثة التي تبدأ بشهر رجب تتحرك مشاعر الإيمان والإنتماء في نفوس المؤمنين خصوصا أهلنا في البحرين. فهي فترة روحانية تساهم في تعميق العبادة والارتباط بالسماء حتى تشعر الروح أنها تعيش ربيعها بجدارة. فحين يستحضر المؤمن المناسبات الإسلامية في شهر رجب مثلا، ويحيي مواليد الآئمة الأطهار وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، فإن مشاعره الإيمانية تتعمق كثيرا ومعها شعوره بالفخر لأنه مرتبط بواحد من أكبر عمالقة التاريخ. فعلى يديه توفر الدعم الحقيقي لرسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ذلك الدعم الذي شدّ أزر محمد وأضعف أعداء الدين. فلا يستطيع إنسان منصف يقرأ التاريخ بإنصاف وموضوعية تجاوز دوره الجوهري في المعارك التي خاضها الرسول دفاعا عن الإسلام ابتداء بغزوة بدر. فلم يتخلف عليّ عن أداء الواجب يوما بل كان ملبّيا لنداء الحق على لسان محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. واستحضار دوره المحوري في ذكرى ميلاده الشريف، يفتح شريط الذكريات المرتبطة بصعود نجم الإسلام برغم تكالب القوى القبلية عليه وسعيها لمنع تجذره في الجزيرة العربية.
لقد اعتاد أهل البحرين إحياء المناسبات وةالشعائر في هذه الشهور بحماس متميّز، برغم رفض العصابة الحاكمة الاعتراف بهوية البلاد وشعبها. هذه المفارقة بين الشعب والعصابة الحاكمة تزداد تجذّرًا بإحياء هذه المناسبات، خصوصا عندما يسعى الخليفيون للتصدي لها. فما أكثر الحقد الدفين لديها، وما أشرس أساليبها في التصدي لمن يحيي تراث آل بيت رسول الله. فاعتقال العناصر الشابّة او العلمائية التي يُتوقع ممارستها دورا في تلك المناسبات يؤكد النزعة العدائية لدى الخليفيين تجاه ما يرتبط بالإسلام المحمدي الذي يمثله عليٌّ وذريته. ولذلك ينظر البحرانيون لاستهداف علي أنه استهداف لمحمد ومشروعه السماوي الذي حرّفه الأمويون، وفرضوا على الأمة مشروعهم طوال 14 قرنا. وشهر رجب يعتبر المدخل للنشاط الفكري والثقافي والروحي التي تصل ذروتها في شهر رمضان قبل أن ينتهي باستشهاد علي عليه السلام في محراب العبادة. ينظر البحرانيون لثقافتهم امتدادا لما قدّمه أئمة أهل البيت عليهم السلام من مادة روحية وفكرية على مدى قرنين ونصف بعد رحيل رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام. بينما يشعر الحكام الخليفيون أنهم امتداد للمشروع الأموي، ولذلك بدأوا في السنوات الأخيرة باستهداف منتقدي معاوية ويزيد والسلالة التي سارت على نهجهم وحوّلت الحكم الإسلامي إلى ملك عضوض.
مآتم البحرين وحسينياتها منتدياتها ستحفل في الشهور المقبلة بالفعاليات الإيمانية التي لا تنفك في جوهرها عن المشروع المحمّدي في طهره ونقائه وروحانيته. يستحضرون حياة الرسول ويغرفون منها معاني الإيمان والانتماء ويشعرون أنهم محمّديون حتى النخاع، وعلويّون بلا منازع، وحسينيون بدون مجاملة. ففي كل المناسبات الإسلامية المقبلة يحضر الحسين كقضية من جهة وكعنوان للمشروع المحمّدي الذي ضحّى أبو عبد الله بنفسه وأهله وأصحابه من أجل الحفاظ عليه. فبعد الاحتفاء بميلاد علي في الثالث عشر من رجب سيتحتفي البحرانيون بالبعثة النبوية في السابع والعشرين منه، وكذلك الإسراء والمعراج، تبركا ويتمنا برسول الله. ثم يستعدون للاحتفاء بذكرى ميلاد الحسين عليه ا لسلام في الثالث من شعبان، وميلاد الإمام المهدي المنتظر في منتصفه. إنها سلسلة من الفعاليات التي يتحمّس البحرانيون لإحيائها بحماس منقطع النظير، ولا تستطيع قوة في الأرض منعهم من ذلك. فما أكثر محاولات الحكم الخليفي ثني المواطنين عن إحيائها، وما أكثر الذين اعتقلوا على ذلك الطريق، ولكن هل نجح الطاغية الخليفي وعصابته برغم ما يملكون من قوات أمنية وعسكرية؟ يستحيل ان يسمح البحرانيون بارتفاع صوت المشروع الأموي يوما في أرض أوال وإن كان الخليفيون يتشدقون بانهم “أحفاد معاوية ويزيد”. فالإسلام في عقيدتهم إنما يمثله محمد بن عبد الله وأهل بيته الذين قرنهم بالقرآن الكريم ليكونوا أدلّاء على الله والإسلام والقرآن والرسول.
طوبى لكم أيها البحرانيون الأوفياء لدينكم ونبيّكم وإنسانيتكم. لقد فتح الله قلوبكم للإيمان منذ فجر الإسلام عندما بعث محمد العلاء الحضري لتبليغ الإسلام لأجدادكم. فآمنوا طوعا وبذلك دخلت البحرين دين الله بدون أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فاصبح حكمها كحكم المدينة المنوّرة التي احتضنت الإسلام طوعا بدون إكراه. هذه الأرض تشرفت بمحمد ودينه، فأنجبت العلماء والصالحين والعُبّاد بدون انقطاع، ولم تنجح كافة محاولات الأعداء زحزحة البحرانيين عن ذلك الدين خصوصا ولاءهم لآل بيت رسول الله الذين أوصى باتباعهم والسير على نهجهم بشكل واضح ليس فيه لبس أو غموض.
الشهور الثلاثة الروحانية تحوّلت إلى فرصة لأعادة التأهيل وتجديد العهد وتعميق الإنتماء، وهي فرصة يحرص البحرانيون على الاستفادة منها بأقصى ما يمكن ليفوزوا بشرف الانتماء ألى رسول الله وأهل بيته وذرّيّته. هذا هو قدرهم منذ القدم، وما يزالون ثابتين على ذلك الولاء ومستعدين للتضحية من أجله. وهذا يساهم في تشكيل عقلهم الديني من جهة وثقافتهم السياسية من جهة أخرى. فهيهات يسكتون على الظلم أو يركنون إلى الظالمين، ولا يخيفهم التنكيل والاضطهاد والظلم. لأن الإيمان يساهم في تثبيت الطمأنينة في القلب ويحول دون هيمنة الخوف والقلق. إن النفس المطمئنة هي تلك التي تعمّق الإيمان فيها فأصبحت تنتظر رحمة الله دائما، ولا تخشى بطش السلطان. قال تعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ”. (فصّلت 30)
من لم يتعمّق الإيمان الحقيقي في قلبه لا يستطيع إدراك تأثير ذلك الإيمان على الفرد، وكيف تتحول نفسه من الاضطراب إلى الأمن. وهل هناك أعظم نعمة من الشعور بالأمن؟ هذا الأمن لا يتوفر إلا لمن امتحن الله قلبه للإيمان، ولم تخالجه الرغبة في الظلم الذي يشمل الانحراف والاعتداء وتجاوز الحدود في التعامل مع الآخرين: قال تعالى في وصف هؤلاء: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (الأنعام 82). والشهداء يعتبرون أرقى البشر الذين يرتقون في مراتب الإيمان حتى يصلوا مرحلة الاطمئنان. فهم يشعرون بالقرب من الله، وبأنهم يقتربون من تحقيق آمالهم في بلوغ مرتبة الشهادة التي لا يلقّاها إلا ذو حظ عظيم. هؤلاء مارسوا ترويض النفس حتى ارتقت في مراتب الإيمان وبلغت درجات عالية من التقوى، فتولّد لديها الشعور بالإيمان والاطمئنان. وتبقى النفوس المؤمنة مطمئنّة بربها وراضية بقدرها دائما. أليس هذا ملحوظا في غزّة التي دمرها العدوان الصهيوني بدون رحمة؟ هل اعتذر أحد من أهلها للإسرائيليين يوما او انحنى لهم أو استسلم لجبروتهم. هذا هو شأن الأحرار الذين يصمدون أمام العدوان والظلم، ويسعون لإزالته بدلا من الاستسلام له. وهذا موقف السجناء السياسيين في طوامير التعذيب الخليفية برغم قضاء بعضهم أكثر من 14 عاما وراء القضبان. فكل منهم يشعر أنه أمام امتحان صعب، وأنه قرّر الصمود أمام ذلك الامتحان واجتيازه بنجاح. وهكذا تحولت سجون الطغاة الخليفيين إلى معاهد للتربية والتثقيف وغرس الحماس في نفوس السجناء وضحايا التعذيب. ولذلك يمكن القول بقدر كبير من الثقة أن شعبنا البطل نجح في الامتحان بعد أن تحمّل الضربات والقمع والاضطهاد الذي شاركت فيه دول أخرى أرسلت جيوشها لكسر شوكته، فأفشل خطتها. سيظل هذا الشعب صامدا وثائرا ومطالبا بالحرّيّة ومتصديا للظلم بدون تراجع، وسوف يستحضر تضحيات شهدائه ولن ينسى سامي مشيمع وعلي السنكيس وعباس السميع والمئات الآخرين من ضحايا الإرهاب الخليفي، بل سيحتفي بهم دائما ويتمثل خطاهم ويسير على طريقهم حتى النصر.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
17 يناير 2025