تأملات في الثورة البحرانية بعد مرور 14 عاما
السلام على الشهداء الأبطال، والقابعين في غياهب السجون، والمتغرّبين عن وطنهم.
برغم مرور السنوات ما تزال قضية الشعب البحراني غضّة طريّة، ويكفي لتأكيد ذلك وجود مئات المعتقلين السياسيين وراء القضبان، والأعداد الكبيرة من اللاجئين والمبعدين في الخارج، وغلق أكبر جامع في البلاد. فمنذ 14 فبراير 2011 عاشت البحرين وضعا سياسيا متوترا، محكوما بقوانين الطواريء وعقلية القتل والسجن والانتقام. وفي مقابل ذلك يحمل المواطنون همّ التغيير على أوسع نطاق، فليس هناك بحراني شريف يقرّ الحكم الخليفي الاستبدادي الذي تتركز السلطة فيه بيدي طاغية متجبّر يحكم في الناس بالنار والحديد، يعادي الشعب ويوالي المحتلّين. لذلك استمرت الأزمة، ليس منذ ثورة فبراير المظفرة بإذن الله فحسب، بل منذ أكثر من مائة عام عندما استيقظ الشعب على جرائم رائد الظلم في البلاد، عيسى بن علي الذي مكث في الحكم 54 عاما. وطوال الفترة السابقة عاش البحرانيون على أمل التغيير يوما، فانتقضوا مرارا وهتفوا ضد الطغيان الخليفي، وأعلنوا انتماءهم للإسلام والأمّة والشعوب الحرّة. خرجوا في مظاهراتهم واحتجاجاتهم في كافّة مناطق البلاد، متعاضدين ومتآزرين ومتلاحمين. وأفشلوا كافة مشاريع التشطير العرقي والمذهبي، وشارك في الحراكات السياسية كافة الشرائح الوطنية. أليس هذا ما حدث في الخمسينات والستينات بشكل واضح؟ أليس هذا ما حدث بعد ميثاق الطاغية ودستوره؟ أليس هذا ما حدث كذلك في أكبر تجمع تاريخي في دوار اللؤلؤة الذي استمر شهرا كاملا وحضره كافة أبناء البحرين الأحرار؟
من هنا يمكن القول أن مستقبل البحرين لا يمكن إلا أن يكون محكوما بالحرّيّة والدستور، وفي ظل ذلك لن يقبل السكان الأصليين بالتشطير العرقي أو المذهبي، ولن يقبلوا بالتمييز ضد أي مواطن، بل يسعون لإقامة منظومة سياسية شاملة وفق مبدأ “لكل مواطن صوت” بدون تمييز او محاباة. إنها طبيعة الشعب البحراني الأصلي الذي يستمد قوّته من تجانس أفراده وتحابّهم وتضامنهم. فقد اشتركوا في لقمة العيش وكذلك في السجون والمنافي. عاشوا معًا في سجون جدة والقلعة وسافرة وجو وسواها. وتعاونوا في المجلسين التأسيس والوطني، ووقّعوا العرائض المشتركة التي تطالب بالحياة الدستورية. هذا هو الشعب الذي لن يتخلى عن مطالبه يومًا، ولن يقبلوا بالتشظي والتمزيق، كما يرفضون جريمة التجنيس الهادفة لتغيير التركيبة السكانية واستبدال السكان الأصليين بآخرين مستوردين من الخارج. وها هي القطاعات المجتمعية تئن من وطأة التجنيس السياسي وما أحدثه من أزمات معيشية واجتماعية وثقافية لهذا الشعب الذي لم يعهد ذلك من قبل. فهو يدرك بوعي ان تلك الأساليب السلطوية إنما تهدف لإضعاف المقاومة الشعبية للاستبداد الذي تمارسه العائلة الخليفية، وكذلك لجريمة التطبيع مع العدو والخروج على الإجماع العربي إزاء قضية فلسطين. فالنضال الذي خاضته أجيال متعاقبة من البحرانيين الأصليين (شيعة وسنّة) ترفض أن تفسح المجال للحكم القبلي أن يشوّه حقيقة البحرين وأهلها، خصوصا إزاء القضايا القومية والعربية والإسلامية.
وعندما يستحضر المواطنون ذكريات دوّار اللؤلؤة تبرز لهم تلك الواحة السياسية التي عاش فيها المواطن السنّي بجانب أخيه الشيعي، فخطب كل منهما في الجماهير عندما كان الربيع العربي في ذروته. فالمشاعر الإيجابية المختزنة تجد طريقها إلى العلن عندما تحدث ظاهرة شاملة كالربيع العربي، تفجّر الطاقات الخيّرة في المواطن العربي وتجعله أكثر وعيا بواقعه وأقوى اندفاعا لتحقيق ما يصبو إليه من حرّيّة وممارسة سياسية. تنطبق هذه الحقائق على الشعب البحراني، كما تجد مصاديق لها في تونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن. فالجميع أبناء أمّة واحدة، بتطلعات متشابهة وطموحات تشمل تحقيق وحدة الأمة وتطوير أدائها السياسي وتماسكها في مواجهة أعداء الأمة ومحتلي أراضيها. فإن وجدت ظواهر للاختلاف فإنما مصدرها أعداؤها الذين يرون في وحدة الشعوب تحدّيا لنفوذهم الذي يتجاوز الحدود. من هنا كان استهداف الثورات العربية متميزا بقسوته وشموله واستمراره. فمنذ وأد ثورات الربيع العربي تصاعد القمع السلطوي ضد دعاة التغيير، فازدادت قبور الشهداء في العديد من البلدان العربية، واكتظت السجون بمعتقلي الرأي، وتغوّل الاستبداد، وتواصل العدوان على العقل العربي والضمير والوجدان. وكان فتح السجون هذه المرة بلا حدود أو قيم او أخلاق. فسجون البحرين مثلا تضم معتقلين سياسيين من فئة الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة، كما تضم الشيوخ الكبار الذين تجاوزوا الخامسة والسبعين. إنه قمع مطلق لم تشهده المنطقة من قبل. هذا في الوقت الذي يمارس الاحتلال الإسرائيلي بلطجته بلا حدود أيضا. وفي ظل تهافت النظام السياسي العربي، لم يجد الاحتلال رادعا عن إعلان سياسة جديدة بطرد الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية لتمهيد الطريق لاقتطاعهما. وهنا تتأكد المقولة الإسرائيلية “من النهر إ‘لى البحر”، وسط تقاعس قاتل من أنظمة الحكم العربية المشغولة باضطهاد مواطنيها.
لقد كان الربيع العربي واعدا في بدايته، ولذلك كان حماس الأجيال الجديدة لإنجاحه غير مسبوق، فقدمت دماءها على طريق الحرية، واستشهد المئات منهم في العواصم العربية التي شهدت تظاهرات واحتجاجات من تونس ألى طرابلس والقاهرة ودمشق وصنعاء والمنامة. كان ذلك الربيع مخيفا لأنظمة الاستبداد وداعميهم، لأن الشعوب الحرّة لا يمكن أن تسكت على الظلم والاستبداد والاحتلال، ويرى الغرب في ذلك خطرا على مصالحه وتغوّله. كان القمع بدون حدود، ومعه اضطهاد البشر على أوسع نطاق، فانتهكت حقوق الإنسان على أوسع نطاق بعد أن تحوّلت العواصم العربية إلى ثكنات عسكرية لا تسمح للمواطنين بالتنفس فضلا عن الاحتجاج والتظاهر. وهكذا أصبح بث الرعب والخوف ظاهرة تعم أغلب البلدان العربية المحكومة بالاستبداد. وكان لمواقف العواصم الغربية دور في ضرب الثورات بلا رحمة، بعد ان تظاهرت في بداية الربيع العربي بحماسها للتحول الديمقراطي. ولكنها سرعان ما غيّرت سياستها واصطفت بجانب الاستبداد. ولاذت بالصمت المطلق عندما شنّت الحكومات حملاتها الأمنية ضد النشطاء، فتراجعت حقوق الإنسان إلى الحضيض. وفي البحرين وحدها نجم عن ذلك القمع استشهاد المئات كما تمت الإشارة أعلاه. وبمرور الوقت أصبحت المنظومة الحقوقية وداعموها لاغية تقريبا. فمنذ انطلاق الثورة منعت السلطات الخليفية المنظمات الحقوقية من زيارة البحرين، وبقيت البلاد وكأنها “صندوق أسود” في الجانب الحقوقي. ولولا نشاط المنظمات البحرانية لكانت الأوضاع أسوأ كثيرا.
وفي الذكرى الرابعة عشرة للثورة المظفرة بإذن الله، لا يستطيع المراقب تجاهل معاناة المواطنين وتضحياتهم خلال تلك الحقبة السوداء التي كان الخليفيون قد أعلنوا فيها الحكم العسكري واستدعوا قوات خارجية لقمع المواطنين. ومن منظور الربح والخسارة، يمكن القول أن النظام السياسي الحاكم قد فقد شرعيته بعد أن انتهك القوانين والأعراف الدولية في تعامله مع المواطنين خصوصا الرموز والنشطاء. لقد كان فشلا سياسيا وأخلاقيا فظيعا يتطلب اهتماما دوليا حقيقيا لمواجهة ظاهرة “الإفلات من العقاب” التي ينتهجها الخليفيون. هذه السياسة ساهمت في استمرار الانتهاكات لأن الجلادين شعروا بالحماية الرسمية من المحاسبة على ما ارتكبوه من جرائم تعذيب وقتل في السجون والمعتقلات. هذا الملف الأسود يفرض على المواطنين مواصلة العمل لتحقيق تغيير سياسي جوهري لإقامة دولة حديثة تحترم القانون وتتصدى للجريمة التي يمثل التعذيب أبشع مصاديقها.
دروس كثيرة تستفاد من مسار الثورة البحرانية، ولكنها، في ظل اللامبالاة لدى الدوائر الغربية، لن تجد طريقها للتطبيق. فما يزال النظام الأمني الذي ارتكب الجرائم نفسه لم يتغير، وما تزال عقلية الحكم ثابتة، وما يزال إصراره على الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة حائلا دون التحول الديمقراطي المطلوب. مع ذلك ستتواصل محاولات التغيير نظرا لعدم وجود بديل لذلك بعد أن فشل الخليفيون إثبات إنسانيتهم في التعاطي مع الاطفال والنساء داخل السجون وخارجها. إن هنا ثقة عميقة بحتمية انتصار إرادة الشعب معتمدا على الله وحده، وليس على القوى التي وضعت المصالح قبل المباديء دائما وكانت بمثابة الشريك في انتهاك حقوق الإنسان.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
7 فبراير 2025