لا تنس وطنك وقضيتك وحرّيّتك ورموزك أيها الصائم
وتتواصل أيام شهر رمضان ولياليه في اتساق إيماني باهر، يصعد بالرّوح ويعمّق الإيمان، ويفتح قلب الصائم على عظمة الخالق العظيم. فمَن غيرُ الله قادرٌ على إخضاع الخلائق لعبادته كما يتجلى من استجابة المسلمين للأمر الإلهي بأداء العبادات. فها هو الصوم يضفي هويّة متميزة لهم من شرق الأرض إلى غربها. ومَن غيرُه سبحانه يستهوي قلوب الصائمين الذين يهرعون لقراءة القرآن، وهو الخطاب الإلهي للإنسان، فيستمتعون بآياته ويشعرون أنها البلسم لما يعانونه من مرض أو بلاء أو حاجة. في ليالي هذا الشهر الكريم يتصاغر الجبابرة وتضعف سلطة المتجبّرين، ويشعر المؤمن بحتمية انتصاره في الحرب من أجل الحق. فاستكمالا لصومه يجد نفسه مندفعا لقراءة الأدعية الخاصة بالشهر الكريم، وفي مقدّمتها دعاء الافتتاح الذي يقرأه كل ليلة: الحمد لله قاصم الجبّارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الظالمين، صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين. هذه المفاهيم تفرض نفسها على المؤمن الصائم، فتتعمق في نفسه مشاعر النصر المحتوم على الطغاة والأشرار الذين يعيثون في الأرض فسادا، ويحكمون بغير ما أنزل الله، ويسومون المؤمنين سوء العذاب. لقد تفنّنوا في التعذيب والظلم، واستعانون بالأجانب، خصوصا من نصّب نفسه مواجها لله ومتصدّيا للأديان، رافعا الرايات الفرعونية التي لم ينتصر يوما من رفعها. يظن هؤلاء الطغاة أن القوّة المادّية سوف تحقّق لهم ما يبتغون من سيطرة مطلقة، وينسون أن فوقهم قوة الله التي لا تضاهيها قوّة ولا تنافسها إرادة. مع ذلك يستمرون في الاعتقاد بأن أمريكا و “إسرائيل” و السعودية والإمارات ستكون مصدر قوة بديل عن الله أو عن الشعب المستند إلى الله، مصدر القوّة والغلبة والعون. فما أوهى ظنهم، وما أضعف فرص نجاحهم. إنهم يزدادون غوصا في الوحل بهذه السياسات، فهم كالأعمى الذي يضل الطريق فلا يزداد إلا ابتعادا عن وجهته.
الطغاة قد يستطيعون إخماد الأصوات واضطهاد الأحرار، ويفتحون سجونهم للأتقياء. ولكن هل بإمكانهم سلب الإيمان من قلوب الضحايا؟ فما أن تحل المواسم الإسلامية حتى تضج سجون الطغاة بالفعاليات والعبادات والأذكار. فزنزانات سجن جو لا تختلف في أجوائها الرمضانية عن مساجد البلاد ومآتمها من حيث الحضور الإيماني وارتفاع صوت العبادة وهيمنة القدرة ألإلهية على كل شيء. ما أكثر محاولات الطغاة منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها، ولكن ما أوهى بأسهم وما أقل ما حققوه. لقد هدموا قرابة الأربعين مسجدا، فهرع المؤمنون لإعادة بنائها أمام مرآى طاغية البلاد ومسمعه، فإذا بها تعج بأصوات الأذان والصلاة والدعاء. يرتادها المؤمنون فيستشعرون مصاديق القرآن والدعاء وأن الله قاصم الجبّارين حقّا. ينظرون ألى الطغاة فيجدونهم عاجزين عن تحدّي الإرادة الإلهية أو منع نفاذ الوعد الإلهي: كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي. يعتقد هؤلاء الطغاة ان تجبّرهم وقمعهم وسياسات التصفية والتهديد والعنف سوف تحقق ما يريدون من إخماد اصوات الإيمان، ولكن ما أن يلتفتوا من حولهم حتى تصدمهم الحقيقة، فإذا بضحاياهم الذين سجنوهم وعذّبوهم وعرّضوهم لأبشع اصناف التنكيل والاستضعاف، قد اصبحوا سادة الموقف، فهم الذين يؤمّون صلاة الجماعة، ويرتقون المنابر ويخطبون في الجماهير، ويتلون القرآن والدعاء ويستنبطون منها أبلغ العظات والدروس، فإذا بالواقع الذي سعى الطغاة لتغييره يطاردهم من جديد. يستطيعون العودة لممارسة التنكيل والاضطهاد، ولكن ما عساهم فاعلين بعد ذلك؟ فأفعالهم هذه تسير عكس اتجاه السنن الإلهية والإرادة الإلهية التي تقول عن المؤمنين الصابرين المحتسبين: إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون. فطوبى لأولئك الرازحين في زنزانات الظلم والاستبداد، الذين يُحيون ليالي شهر رمضان بالعبادة والذكر وقراءة القرآن والتهجّد وطلب النصر من مصدر القوة وحده، وليس من غيره.
لقد شاءت القدرة الإلهية أن توفر للبشر محطّات للتزوّد فيها بالإيمان والصبر والأمل. وهذه المشيئة تساهم في إبقاء الشعور الإنساني بحتمية حدوث التغيير الإيجابي في حياته مهما ادلهمت الخطوب. وبالنسبة لشعب البحرين فإن شهر رمضان المبارك محطّة ضرورية لذلك التزوّد. فهو شعب مؤمن بدون حدود، ومظلوم بلا وصف، وصبور بلا نظير. لذلك لا ينفد اليأس إلى نفسه أبدا مهما كان ظلم الطغاة وعدوان المجرمين. لقد صبر دائما على ما أصابه من محن. وحين هدمت مساجده غضب لله ولم يخرج عن الحدود، وتعمّق في نفسه الأمل بحتمية إعادة بنائها برغم أنف من ارتكب جريمة الهدم، فدعا في ليله ونهاره على ذلك الظالم الذي هدم بيوت الله، وتوجّه إلى خالق السماوات والأرض في بطن الليل، بطلب العون والنصرة، فلم يخيّب الله دعاءه، فما هي إلا لمحة عين حتى بدأ الشعب بإعادة بناء بيوت الله التي دمّرها الخليفيون والسعوديون، ولم يبق إلا عدد يسير ينتظر إعادة البناء. صحيح أن قبّة مسجد البربغي التاريخية دمّرت ولن تعود كما كانت، ولكن مسجدها أعيد بناؤه وكذلك الكثير من المساجد الأخرى التي استهدفها الطغاة بالهدم والتدمير. وفي هذا الشهر الفضيل تتجدد عزيمة الوطن والشعب لمواصلة طريق البناء والإعمار والتخلص من أعداء الله الذين هدموا بيوته، واثقين بأن النصر الإلهي لن يتأخر كثيرا، مستهدين بالوعد الإلهي: وكان حقّا علينا نصر المؤمنين. فلا يمكن ان تذهب أدعية المظلومين في طوامير التعذيب الخليفية سُدى، وقد وعد الله الداعين بالإجابة: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم. المغيّبون في سجون جو والقرين والحوض الجاف ومركز كانو الطّبّي تحوّلوا إلى أيقونات للحرّيّة والصمود والتضحية، فأصبحوا موضع احترام شعبي واسع، وكلما قضوا يوما إضافيا في الأسر، تضاعف الاحترام الشعبي لهم، وتضاءلت فرص أي توافق بين البحرانيين والخليفيين. فهؤلاء الطغاة أصبحوا في عيون الشعب، سببا للاضطهاد والمعاناة، ينظر الشعب لهم محتلّين وغاصبين بالإضافة لما يمثلونه من ظلم واستبداد وإجرام. وفي شهر رمضان المبارك، تزداد المشاعر الشعبية عمقا بضرورة تحرير الوطن والشعب من أعداء الإنسانية والحرّيّة والدّين. وتفيض قلوب مرتادي المجالس الرمضانية بمشاعر الحب للذين ضحّوا بأرواحهم وحرّيّتهم وراحتهم من أجل الوطن والشعب، شهداء ومحكومين بالإعدام ومسجونين ومبعدين. هذه المجالس أصبحت ملتقيات يرتادها ذوو الضحايا وأصدقاؤهم والسائرون على خطاهم، وما أكثرهم في بلد يئن تحت وطأة الاحتلال الخليفي الغاشم. فقلوب الصائمين تنبض بحب أبطال الوطن المغيّبين وراء القضبان، ومشاعرهم تفيض بالولاء والإخلاص لله ودينه والوطن والرموز وكل معتقل مظلوم وقع أسيرا بأيدي العدو الخليفي المارق. وبهذا أصبح شهر الصوم محطّة سنويّة مهمة تحرّك المشاعر الإيمانية وتدفع الصائيمن لتخصيص بعض صلاتهم ودعائهم من أجل القضيّة الوطنية التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.
لذلك نتوجه مجدّدا لشعبنا الصائم بكافة أطيافه لاستحضار القضية بشكل متواصل سواء في المجالس الرمضانية ام المسيرات التي تهتف بحرية الشعب والوطن وحرّيّة الأسرى، أم في صلاتهم وتهجدهم في بطن الليل. فالدعاء من القلوب الوالهة والبطون الجائعة لا يُردّ، بل أن الله سبحانه وتعالى سميع عليم، يجيب دعوة الداعين خصوصا في شهر رمضان المبارك. ولا شكّ أن الإخلاص في العبادة والاستجابة للأوامر الإلهية، وكذلك عمق الشعوب بواجب التصدّي للظلم والطغيان، كل ذلك من شروط صدق الدعاء واستجابته من الله سبحانه وتعالى.
اللهم راحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك وفك قيد أسرانا يا رب العالمين.
حركة أحرار البحرين الإسلامية
7 مارس 2025