من إنجازات المؤمن في شهر رمضان: التكامل من خلال الصوم
ما أعظم شهر الله، وما أعمق روحانيته وقيمه، وما أهم مناسباته. فمن نزول ا لقرآن الكريم، إلى مولد الإمام الحسن بن علي عليه السلام، إلى ذكرى غزوة بدر الكبرى وصولا إلى ذكرى ا ستشهاد ا لإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. إنها مناسبات عظيمة تبعث في نفوس المؤمنين ذكريات العهد الأول من الإسلام العظيم. فالقرآن كتاب الله الخالد الذي أنزله الله على قلب رسول الله ليكون هدى للعالمين، فهنيئا لمن يرتّل آياته في هذا الشهر الفضيل، ويتدبره ويسعى للعمل به. أما الإمام الحسن بن علي عليه السلام فهو سيد شباب أهل الجنة، وكانت حياته جهادا متواصلا وسعيا لتمكين حكم الله على الأرض. وذكرى غزوة بدر مناسبة عظيمة لاستعادة تاريخ الرسالة النبوية الشريفة ودور المسلمين الأوائل في توطيد أركانها والتصدي للشرك والكفر وكسر شوكة النظام القبلي الذي يحكم بأهواء القلّة ولا مكان لشرع الله في ذلك. وما أكثر دروس تلك الغزوة ومن أهمها حتمية انتصار الحق على الباطل، برغم قلة العدد والعدّة، وتكالب الأعداء واستهدافهم رسالة الله وإنسانية الإنسان.
لا يستطيع المؤمن الصادق أن يمر بهذه المناسبات بدون أن يتوقف عندها ويغرف من معينها ما يعينه على شق دربه في الحياة، كإنسان يحمل رسالة ومشروعا ويسعى لتحقيق خلافة الله على الأرض. إنه يعلم أن تلك الأهداف كبيرة، وأن جنود الباطل كثيرون، وأن استهداف الدين وقيمه وأهله أولوية قصوى ضمن مشروع التصدي للمشروع الإلهي الذي ضحى من أجله الأنبياء والرسل والصالحون. وشهر رمضان الذي تصرّمت أيامه فرصة للصائم لتحديد موقعه ودوره في المشروع الإلهي. والصوم، كما هي الصلاة وبقية الفرئض، ممارسات عبادية تهدف لتثبيت روحانية الصائم والصعود به ألى مصاف الأنبياء والرسل. إنها مهمّة مقدسة تهدف للحفاظ على قيمة هذا المخلوق الذي تتسابق قوى العالم لتهميشه واستعباده ومنعه من أداء دوره المقدّس الذي رسمه الله له. برغم ذلك فباستطاعة الصائم إفشال الخطط الشيطانية بتعميق العلاقة مع الخالق سبحانه، وتجاهل كيد الظالمين ومكرهم. وله في ما يجري في فلسطين عبرة إذا سعى لاستيعابها بموضوعية. فبعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن ما تزال القضية قائمة، تتحدى المحتلين وداعميهم وتستعصي على محاولات التصفية. فالحمم التي تلقى يوميا على أهل عزة لا يحتملها شعب آخر، ومع ذلك استطاعوا الصمود وتحدّي إرادة المحتل ورفضوا الاستسلام. وعندما طلب الرئيس الأمريكي منهم مغادرة القطاع ليحوّله إلى أرض للفساد، رفضوا بإصرار، فتضاعف إلقاء الحمم على رؤوسهم، ونجم عن ذلك استشهاد المئات من النساء والأطفال يوميا.
من قال أن التمرد الغربي على الإرادة الإلهية سوف يحقق أهدافه؟ لقد جاءت معركة بدر لتؤكد عجز النظام الطاغوتي عن النيل من إرادة المؤمنين الصامدين، وأن القوة المفرطة وحدها لا تكفي لكسر شوكة المجاهدين الصادقين. فبرغم التحالف الغربي الهادف لتدمير أرض فلسطين ومحوها من الخريطة، ما تزال هذه الأرض رمزا للصمود والإباء والكرامة. حتى أصبحت رمزا لكل ثوري صادق في هذا العالم. فلا يمكن ان تكون هناك حركة تحرر بدون أن ترتبط مشاعر قادتها بفلسطين. فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن فشلت الدعاية الغربية في التشويش على هذه الحقيقة، وأصبح علم فلسطين رمزا للثورة والكرامة والعزّة. وليس سرّا القول أن بعض حكومات الدول العربية تحالف مع الدول الغربية وكيان الاحتلال وأصبح يساهم بشكل مباشر في الجهود المعادية لفلسطين واستهداف رمزيتها ورموزها ومن ذلك العلم الفلسطيني الذي أصبح رمزا لتحدّي النظام السياسي الدولي الذي تهيمن عليه أمريكا. فما أن تخرج مظاهرة في شوارع العواصم الغربية حتى ترتفع أصوات الدعاية الصهيونية التي تحرّض أجهزة الأمن في تلك البلدان ضد من يرفع علم فلسطين أو يطالب بتحريرها من “البحر إلى النهر”. ولطالما سعت أجهزة الشرطة الغربية لمصادرة حق التظاهر الحر بسبب ضغط ا للوبي الصهيوني، ولكن فشلت كافة الجهود لمنع ذلك، وعرف عشاق الحرّيّة في الغرب أن حريتهم وحقوقهم في التعبير الحر والتظاهر مرتبط بضمان المسيرات الثورية الهاتفة بحياة فلسطين وشعبها. ولذلك فشلت سياسات الأنظمة الغربية الهادفة للتماهي مع ما يريده محتلو فلسطين، ولم تفلح جهود اللوبيات المرتبطة بالصهيونية واليمين المتطرف في كسر شوكة المصرّين على دعم فلسطين وأهلها، وما أكثر الذين اعتقلوا وتعرضوا للتنكيل بسبب مواقفهم ونشاطهم الداعم للحرّيّة والمندّد بالجرائم الإسرائيلية التي لم تتوقف، والتي ما تزال تحصد أرواح المئات من البشر في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية.
كان شهر رمضان المبارك الذي بدأت أيّامه تتصرم فرصة لالتقاط الأنفاس والتوقف لقراءة المشهد بإمعان، ولكن هل حقّا أن هناك من يراجع نفسه؟ وهل هناك من يستفيد من أخطائه أو يتعلم دروسا من تجربته؟ يتكرر ذلك كثيرا، ولكن الإنسان هو ا لإنسان، يكرّر أخطاءه دائما ويتخذ المواقف نفسها كل مرة: “ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه، وإنهم لكاذبون”. وكما يقول الإمام علي عليه السلام: ما أكثر العبرة وأقل الاعتبار. ويخطيء من يستصغر تأثير النفس على صاحبها، فما أقواها، وما أشد شكيمتها. ويُفترض أن يكون الصوم مناسبة للسيطرة على ا لنفس وترويضها. يتحقق شيء من ذلك إذا صدق الإنسان في أداء صومه ومارس عددا من الأمور: أولها اتخاذ قرار بالصدق مع الله والنفس والآخرين، ثانيها: ممارسة الصوم المطلق الذي لا يمنع الصائم من الأكل والشرب فحسب، بل يخلق فيه القدرة على التوقف عن ارتكاب المعاصي بالممارسات أو الكلام أو الخوض في أحاديث غير ذات فائدة. ثانيها: اعتناق مبدأ ا لتدبر في القرآن الكريم والوقوف عند أياته لاستنطاقها حول شؤونه ومشاعره وأفعاله. هذا التدبر يتكرر الحديث عنه كثيرا ولكن ممارسته محدودة جدا، لان التدبر يفترض استخدام العقل والتفكر، وهذا لا يتحقق في عالم يخضع لسيطرة التكنولوجيا الحديثة التي ملأت الدنيا وهمّشت دور العقل البشري، وتهدّده كمصداق لإنسانيته. ثالثا: أن يتخذ الصائم قرارا صادقا بالتحوّل الداخلي، لتصبح نفسه منسجمة مع الدين والشرع والأخلاق. إذا حدث ذلك فسيكون الصائم قد حقق إنجازا كبيرا من صومه، وبدأ دربه نحو التكامل والسعادة.
إن من السهولة بمكان الحديث عن فوائد الصوم وقداسة شهر رمضان، وموقع القرآن في حياة المسلمين. ولكن الصعوبة تحويل تلك المفاهيم والقيم إلى أنماط سلوك تدفع ا لصائم بعيدا عن ارتكاب الآثام. ومهما قيل عن تقاعس البعض عن السعي نحو التكامل، فقد جعل الله العبادات طريقا عمليا لتحقيق ذلك. وهناك من البشر من بلغ مرتبة الكمال، كما قال رسول الله: ” كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلّا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد”. فإذا تحقق الكمال لهؤلاء فلماذا يستعصي على الصائم الصادق في صومه وصلاته؟ فالكمال ليس سحرا، بل أنه حالة من الاستقامة الإيمانية والسلوكية والفكرية تدفع الإنسان للسعي الدائم من أجل الخير العام. ولا بد من التأكيد على أن شهر رمضان هو الفرصة السنوية الكبرى التي توفر للصائم أجواء متميزة من الإيمان العميق والروحانية العميقة والاستقامة الحقيقية. ومن الخطأ الكبير أن ينقضي الشهر بدون أن يكون له انعكاسات حقيقية على المشاعر والسلوك، فإن حدث ذلك فإنها خسارة للإنسان القادر على الأنجاز والعطاء والاستقامة.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمي
حركة أحرار البحرين الإسلامية
21 مارس 2025