اعادة انتشار بريطاني دولي بمحور يتمركز في البحرين
كيف يمكن ضمان أمن منطقة الخليج؟ هذا هو السؤال الذي هيمن على تفكير الساسة والاستراتيجيين طوال القرن الماضي، خصوصا بعد اكتشاف الننفط في هذه المنطقة وتصاعد اطماع الدول الصناعية في ثرواتها. وفي اغلب الاحيان، تركز التفكير على ان ذلك الامن يتحقق بالقوة العسكرية. في البداية كانت بريطانيا ضامنة ذلك الامن من خلال قواعدها العسكري التي أنشأتها في المنطقة واساطيلها الت كانت تمخر البحار والمحيطات. وبعد انسحابها الرسمي في 1971 حلت القوات الامريكية في اغلب القواعد البريطانية واستمر النقاش حول امن الخليج، خصوصا في ظل الصراع مع الاتحاد السوفياتي آنذاك. كان التفكير الغربي يتأسس على منع الاتحاد السوفياتي من الوصول الى مياه الخليج الدافئة. وفي الاعوام الخمسة الاخيرة طرأ تغير على تلك الاستراتيجية بعد ان تصاعدت اهمية الصين وتوسعها العسكري لتلبية احتياجات توسعها الاقتصادي. وتوازى مع ذلك قرار امريكا بالتصدي للصين ومنع توسعها في العالم او على الاقل منع وصولها الى “مياه ا لخليج الدافئة”. وشيئا فشيئا اصبحت الاستراتيجية الامريكية تتجه نحو حنوب شرق آسيا، بينما اصبحت بريطانيا تتجه للعودة الى الشرق الاوسط. ومع توجه بريطانيا للخروج من الاتحاد الاوروبي فقد اصبحت اكثر ميلا للعودة الى دورها التاريخي في المنطقة. وبرغم اوضاعها الاقتصادية التي تقلصت كثيرا عما كانت عليه قبل نصف قرن، الا ان استثمارها في الجانب العسكري لم يتقلص، بل قامت ببناء حاملة طائرات كبيرة بكلفة تجاوزت ثلاثة مليارات ولار. ولديها فرقاطات ومدمرات بدأت تعود للمياه الدولية ضمن خطط لاثبات الوجود وممارسة دور الشرطي كما كانت تفعل من قبل. والسؤال هنا: هل سيحقق الوجود البريطاني العسكري الجديد في المنطقة الامن السياسي او العسكري للمنطقة؟
كان الوجود البريطاني الاول الذي سبق الانسحاب في 1971 مصدر قلق واضطراب لشعوب المنطقة. يومها كانت بريطانيا هي القوة الكبرى بلا منافس. ومع ذلك لم تستطع القضاء على اضطراب الاوضاع او اسكات الشعوب التي كانت تناضل من اجل الحرية والاستقلال. بريطانيا تجاوزت حروب الاستقلال التي قامت بها حركات التحرر ضد الاستعمار، ولكنها لم تستطع تطبيع علاقاتها مع تلك الشعوب لانها رفضت التناغم مع ما كانت تتطلع اليه من استقلال وحرية وديمقراطية. وتحالفت بريطانيا مع انظمة الاستبداد العربية، خصوصا بمنطقة الخليج، انطلاقا من قناعتها الراسخة التي تقوم على ان الامن اساس الاستقرار، وان له اولوية على تريده الشعوب. بمعنى ان بريطانيا لم تسع لاقامة منظومات سياسية على اسس الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، بل ساهمت قواتها مرارا في قمع حركات التحرر. وعلى سبيل المثال نزلت تلك القوات الى شوارع البحرين اكثر من مرة لقمع الانتفاضات الشعبية. ففي اكتوبر 1956 شاركت في قمع انتفاضة شعب البحرين واعتقلت قادتها وقامت بنفي ثلاثة منهم الى جزيرة “سانت هيلانة” في المحيط الاطلسي. وبرغم تطور العمل الحقوقي ونشاط منظمات المجتمع المدني البريطانية، وبروز نشطاء ليبراليين الا ان المؤسسة الرسمية هيمنت على السياسة الخارجية وحالت دون قيام انظمة ديمقراطية في الشرق الاوسط خصوصا بمنطقة الخليج. وتعتبر بريطانيا الحامي الاول لهذه الانظمة وتبذل جهودها لمنع اي تغيير ديمقراطي فيها.
قبل خمسة اعوام طرأ تغيير على السياسة البريطانية الخارجية بعد نصف قرن من الانسحاب من كل المناطق شرقي السويس. وفي الآوان الاخير اصبح واضحا ان التغيير يهدف لاعادة القوات البريطانية الى شرقي السويس. ولا يمكن فصل قرار انفصالها عن اوروبا عن قرار توسعها العسكري والامني الجديد. فذلك يوفر لها مجالا للتحرك المستقل عن الاتحاد الاوروبي ويحررها من القيود المرتبطة بحقوق الانسان والمشروع الديمقراطي. بدأ ذلك ببناء قاعدة بحرية بريطانية في البحرين بتكلفة تجاوزة 40 مليون دولار دفع الديكتاتور الخليفي اغلبها. وتتجلى هذه السياسة الجديدة في التنكل الكامل لقضايا حقوق الانسان وتبني منطق جديد يبحث عن الذرائع والمبررات للممارسات الخليفية على وجه الخصوص. يعتقد الساسة البريطانيون انهم قادرون على حماية نظام ذلك البلد بدعم اجراءاته وتوفير غطاء سياسي وامني يحميه من الضغوط التي قد تمارس عليه من الخارج. ويعتقد البعض ان هناك تنافسا بين السعودية وبريطانيا على النفوذ في الشرق الاوسط، وان اوضاع البحرين ستكون احدى تجلياته. الامر المؤكد ان البريطانيين ليسوا مرتاحين لتوسع النفوذ السعودي في المنطقة، وانهم يعولون على امرين لمنع انعكاسات ذلك سلبا على نفوذهم. الاول تكثيف الضغوط على السعودية، ليس في العلن، بل تحت الستار، كاثارة قضايا حقوق الانسان او تحديد حجم المبيعات العسكرية للرياض، او تحريك ضغوط دولية ازاء الحرب على اليمن لاحراج السعودية بشكل خاص. الثاني الاستثمار في العلاقات مع الامارات واعتبار تحالفها مع السعودية ضامنا للنفوذ البريطاني.
هذه الاستراتيجية تواجهها تحديات غير قليلة. فالعلاقات داخل مجلس التعاون الخليجي تنحو نحو التصد نظرا للتوسع الاماراتي الذي يهدد توازن القوى داخل المجلس، والسياسات السعودية التي تهدف لابتلاع المنطقة واعتبارها سلاحا لدى الرياض في تعاملها الدولي والاقليمي. يضاف الى ذلك ان المجلس في الاعوام الاخيرة شهد استقطابا غير مسبوق، حيث انشطر الى محورين: السعودية ومعها الامارات والبحرين من جهة وسلطنة عمان وقطر والكويت من جهة ثانية. هذا الاستقطاب يزداد حدة مع رغبة المحور الآخر في الاستحواذ الكامل على السياسات والعلاقات الخارجية والنفوذ الاقليمي. وبالاضافة للخلافات الحدودية التي قد تفجر الاوضاع في اي وقت، فان السياسات التوسعية لدى الامارات تنذر بصراع بعيد المدى مع سلطنة عمان. وبعد ان شعرت الامارات، مدفوعة ومدعومة من الكيان الاسرائيلي، بانها احكمت السيطرة على باب المندب من خلال سيطرتها على اغلب الموانيء القريبة منه، اصبحت تطمع في السيطرة على مضيق هرمز. هذه السياسة تتناغم مع الاطروحات الامريكية والاسرائيلية التي تسعى لمحاصرة ايران. المشكلة ان الساحل الجنوبي للمضيق يقع ضمن السيادة العمانية. وتجدر الاشارة الى ان سلطنة عمان تتكون من شطرين: رأس مسندم الذي يحاذي مضيق هرمز والمساحة الاساسية لعمان التي يفصلها عن شبه جزيرة رأس مسندم أراض اماراتية تصل الى خور فكان المطل على بحر العرب. ولذلك فهناك قلق من تحرك اماراتي يهدف للسيطرة على رأس مسندم لاحكام القبضة على مضيق هرمز. وهذا لن يتم الا بحرب مع سلطنة عمان. وفي الشهور الاخيرة حاولت الامارات السيطرة على اراض عمانية خصوصا في اقليم المهرة في اليمن، الامر الذي استفز عمان، فاتصلت فورا ببريطانيا وطلبت منها التدخل لوقف التغلغل الاماراتي الذي تراه عمان اعتداء على سيادتها. ويقال ان بريطانيا بعد ذلك وقعت اتفاقين للدفاع المشترك مع كل من عمان والكويت، الامر الذي ازعج السعودية والامارات وفهمتا مغزاه بانه يهدف لمنع اي تغيير على الوضع الراهن.
وهكذا عادت بريطانيا الى الخليج بعد قرابة نصف قرن من الانسحاب الشهير الذي اعلنت عنه في 1968 واكملته في 1971. وتعتبر اعادة الانتشار البريطاني في مناطق شرقي السويس خطوة كبيرة من الناحية الاستراتيجية. ومع ان الظاهر انها حدثت بالتوافق مع الولايات المتحدة الامريكية الا انها تمثل إخلالا بالتوازن الاستراتيجي الذي تبلور بعد الانسحاب البريطاني من الخليج في 1971. بل ان هناك من يعتقد بوجود صراع بين واشنطن ولندن على اقتسام مناطق النفوذ وان بريطانيا تراجعت عن مبدأ الانكفاء والتخلي عن دورها العالمي التقيدي. الامر المؤكد ان ثمن هذا التمدد الاستراتيجي الضغط على الشعوب ومنعها من تحقيق التحول الديمقراطي الواسع. وما دامت بريطانيا قد تحررت من الاتحاد الاوروبي فلا يضيرها امر محكمة حقوق الانسان الاوروبية لان احكامها لن تكون ملزمة لبريطانيا بعد انسحابها الكامل من الاتحاد الاوروبي. ايا كان الامر فالمتوقع اعادة انتشار واسعة للنفوذ الاستراتيجي في الشرق الاوسط عبر الوسيط الاسرائيلي بعد ان تم التطبيل له والتصفيق، حتى اصبح لاعبا اساسيا في شؤون المنطقة. الاستراتيجيون يؤكدون ان ثورة البحرين بشكل خاص ساهمت في عودة بريطانيا الى المسرح الدولي كقوة عسكرية قوية قائمة بذاتها بعيدا عن الانتماء للاتحاد الاوروبي. مع ذلك فهذه الاستراتيجية لا تخلو من عقبات، اهمها صحوة الشعوب مجددا واصرارها على التحرر من الاستعباد للنظام القبلي، وهي حقيقة مزعجة لبريطانيا ولذلك فستترعرع وتنم بدون معوق، فان حدث ذلك فقد نجحت في طرح صورة اكثر تحضرا وتمدنا للاسلام وتراجعت عن الصور النمطية لهذا الدين المبتلى.