الذكرى الـ 40 لاستشهاد جميل العلي: نحو سياسة حقوقية مستقلة عن إملاءات الطغاة
أربعون عاما من التعذيب الممنهج هو بعض ما لدى البحرانيين الاصليين (شيعة وسنة) من مبررات للسعي لانهاء الحقبة الخليفية السوداء. يمكن القول ان تصوير جسد الشهيد جميل العلي في مثل هذه الايام قبل أربعة عقود كان بداية لثقافة شعبية أسست لتوثيق التوحش الخليفي. فمنذ ذلك الوقت توفرت صور كثيرة للتعذيب الذي يمارسه الخليفيون بحق البحرانيين بدون توقف، وربما كان ذلك من بين دوافع اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق برئاسة المرحوم شريف بسيوني في العام 2011، لتأكيد ممارسة “التعذيب الممنهج” كسياسة ثابتة لدى الحكم الخليفي. فلا يستطيع احد إنكار وجود تلك السياسة التي تواصلت عبر العقود، والتي كان لشجاعة ذوي الضحايا واصدقائهم دور في توثيق مصاديقها. فقد تواصلت في التسعينات وأكدتها صور التعذيب الذي كشفته جثث الضحايا مثل سعيد الاسكافي وعلي أمين محمد وآخرهم في حقبة التسعينات، نوح خليل آل نوح. واستمرت تلك السياسة بعد فرض ميثاق الطاغية على البلاد في 14 فبراير 2001. وتظهر اجساد مناضلين مثل نبيل رجب وعباس العمران آثار التعذيب في العام 2006. وبعد اندلاع الثورة المظفرة في العام 2011 اظهرت صور الشهداء كريم فخراوي وزكريا العشيري وعبد الرسول الحجيري والسيد حميد السيد محفوظ وسواهم تواصل التعذيب الممنهج. وجاء برنامج بي بي سي هذا العام ليوثق مدى ما يصل اليه التوحش الخليفي في مجال التعذيب، اذ يظهر امرأتين بحرانيتين تتحدثان عن التعذيب الجنسي والاغتصاب الذي تعرضتا له في الطوامير الخليفية. والحديث هنا ليس عن جرائم تعذيب ارتكبت في الماضي بل عن ممارسات حدثت العام الماضي.
في 26 ابريل 1980 شنت العصابة الخليفية حملة اعتقالات واسعة طالت عشرات الشباب البحراني في إثر تظاهرة حدثت قبل اسبوعين من ذلك الوقت، منددة بجريمة إعدام المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر في الثامن من ذلك الشهر. شملت تلك الحملة لاعتقال شباب مارسوا حق الاحتجاج السملي شابا في الثالثة والعشرين من العمر، اسمه جميل علي محسن العلي من سكنة المنامة. وتصاعد قلق عائلته بعد انقطاع اخباره قرابة الاسبوعين. وبرغم مراجعة مراكز الامن التي كانت آنذاك تحت ادارة الضابط البريطاني الاستعماري إيان هندرسون، الا انها لم تعرف عن مصيره شيئا. وفجأة انتشر خبر غير معروف المصدر ان جثة الشهيد جميل العلي موجودة بثلاجة حفظ اجساد الموتى بمستشفى السلمانية. وفي 9 مايو هرع الشباب الغاضب الى ذلك المكان وانتزعوا الجثة. التصرف التاريخي الذي فعلوه انهم قاموا بتصويرها حيث كانت آثار التعذيب واضحة عليها: ثقوب ناجمة عن مخاريز كهربائية، مناطق محترقة بالكي والصعق الكهربائي، أثارة سجائر اطفئت على الجسد ا لطاهر. شعر المواطنون انهم يواجهون وحشا كاسرا اسمه لا يؤمن بمباديء او قيم. كانت تلك الصور اولى الشهادات الدامغة للتعذيب الذي تحول الى سياسة ثابتة على مدى العقود الاربعة اللاحقة. وما اكثر الصور التي توثق ممارسات الخليفيين التي تعتبر جرائم ضد الانسانية.
من الامور التي حالت حتى الآن دون مقاضاة اي من الخليفيين بتلك الجرائم ما يلي:
اولا: الحماية التي توفرها دول بعينها للخليفيين، وتدافع عنهم في المحافل الدولية، الحقوقية والسياسية، وتمارس ابشع اساليب الكذب والدجل لمنع استهداف نظام التعذيب بالنقد او الشجب او المقاطعة. انها ظاهرة مقلقة لا يمكن ان تؤدي الى امن العالم واستقراره، لان التعذيب ظلم واضح، والظلم لا يؤدي لأمن البلدان والشعوب او استقرارها. هذه الدول اذا استمرت في هذا الدعم فانها تعتبر شريكة في الجرائم الخليفية بحق الابرياء.
ثانيا: هيمنة بعض القوى الغربية على القرار الدولي حتى في مجال حقوق الانسان التي اصبحت من اختصاص مجلس حقوق الانسان. هذا المجلس تسيطر عليه الحكومات وليس الشعوب، وقد فشل في اتخاذ اجراءات رادعة ضد الانظمة التي تنتهك حقوق الانسان وتمارس التعذيب. فلا يستطيع القيام بأي من ذلك الا بموافقة الدول الاعضاء، وهذه الدول تمارس توازنات غير شريفة، وتسعى لحماية بعضها البعض، وتحول دون ممارسة العدالة الدولية او قيام مجلس حقوق الانسان بدوره.
ثالثا: امتلاك الخليفيين، بدفع وتوجيه من الدول الداعمة لهم، منظمات “حقوقية” هدفها الاساس حمايتهم والتصدي للنشطاء الحقوقيين الحقيقيين، والتواصل مع الجهات الدولية، مستغلة الوفرة المالية واللوجستية التي يوفرها الخليفيون لهم بدون حساب. فما ان ترتفع الاصوات ضد ممارسات سلطات السجن، حتى تهرع لزيارات شكلية للسجون وبعدها تصدر “تقارير” تبريء ساحة الجلادين، وتروّج صورة غير حقيقية لاوضاع السجون، فتدعي نظافتها وتوفر العناية الصحية فيها، وحسن ادارتها والتسامح مع السجناء السياسيين وتوفير ما يحتاجونه من وسائل الراحة وما يحتاجونه من كتب، والاتصالات العائلية. هذه الدعاوى من ابشع اساليب التنكيل لانها دفاع عن الجلادين والقتلة وشهادات زور تساهم في استمرار المعاناة القاسية للسجناء. ولو كان هناك نظام عالمي عادل لاعتبر القائمين على تلك المؤسسات شركاء حقيقيين في الجرائم ضد الانسانية.
رابعا: عدم ارتقاء العمل الحقوقي المستقل الى مستوى الكفاءة التي تؤهله لرفع قضايا قضائية ضد المعذبين، ومطاردتهم اينما ذهبوا، ومحاصرة رموز العصابة الخليفية بالادلة الدامغة بشكل منهجي ومستمر.
خامسا: تحول نشاط حقوق الانسان الى مهنة يمارسها “الحقوقيون” الذين لا يسعى النظام السياسي الدولي الذي تديره الحكومات الفاسدة، لتحويلها الى نشاط جاد يفتقر الانسانية كشرط جوهري، والحرفية المستقلة البعيدة عن الخضوع للأملاءات التي يفرضها اعداء حقوق الانسان. مطلوب من الجهات الحقوقية الدولية امران: التمرد على الممارسة النمطية المفروضة من قبل زعماء الدول الكبرى، وامتلاك “أنيابا” تمكنها من اجبار الدول الراعية للتعذيب على تسليم جلاديها للقضاء الدولي، وعدم السماح للدول بالتملص من التزاماتها برفض التوقيع على البروتوكولات الخاصة التي تحميها من الالتزام والمحاسبة.
في الذكرى الاربعين لبدء توثيق ممارسات التعذيب، ثمة فرصة لمراجعة المسار الحقوقي في البحرين، بابعاده تدريجيا عن الأطر الدولية التي رسمتها الدول لمنع كفاءتها من جهة وتحييد نشطائها بمنعهم من ممارسة اي عمل فاعل لمواجهة الجلادين والمعذبين. لقد بلغ المشروع الحقوقي الدولي ذروته مع نهاية الحرب الباردة، عندما عقدت القمة الاولى والاخيرة لحقوق الانسان في فيينا في العام 1993. ولكن ما حدث بعد ذلك يمكن اعتباره انقلابا على المشروع الحقوقي، اذ بدأ التراجع عن الالتزامات الدولية ازاء هذه المنظومة، خصوصا بعد تحالف الحكومات الشريرة الاستبدادية في العالم مع ما يسمى “العالم الحر”. فكانت الشعوب والمناضلون والنشطاء الحقوقيون ضحايا هذا التحالف غير المقدس. وما لم تحدث هزة حقيقية في الجسد الحقوقي الدولي، فستظل الحقوق شعارا فارغا من المضمون، يدغدغ عواطف الضحايا ولا ينتصر لهم، يصفق للنشطاء بيديه، ويستخدم تلك اليدين لمنع الجلادين من الحساب والمساءلة والسقوط. والأمل ان تكون آثار التعذيب على جسد الشهيد جميل العلي حافزا للنشطاء لاعادة النظر في عملهم بما ينسجم مع مطالب التغيير كشرط جوهري لمنع انتهاكات حقوق الانسان. فلا يمكن ان تحترم حقوق الانسان في ظل نظام استبدادي، فهذا مستحيل ومن يصر عليه انما يمارس هراء وسفسطة لاضاعة الوقت والجهود وحرف مسار العمل الحقوقي الفاعل.
اللهم ارحم شهداءنا الابرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الاسلامية
8 مايو 2020