السجال المحمود والمراء المرفوض والنضال الواجب
الصراع في البحرين المتواصل منذ اكثر من مائة عام اصبح اليوم صراعا وجوديا بين طرفين فحسب، الشعب البحراني الاصلي (شيعة وسنة) والعصابة الخليفية التي تحكم البلاد بالحديد والنار معتمدة على الدعم الاجنبي ضد الوطن والشعب. وما عدا ذلك فليس هناك الا اختلافات طبيعية تحدث في كافة المجتمعات البشرية. ويخطيء من يسعى لمنع السجال الفكري والثقافي بين ابناء الوطن. “ولو شاء الله لجعل الناس امة واحدة، ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم.” هذه السجالات على مدى قرن ساهمت في خلق مجتمع حيوي يتميز عن بقية مجتمعات المنطقة بالوعي والثقافة، فاصبح يدفع ثمنهما غاليا لانه أصر على نيل الحرية وطالب بتقرير المصير وأصر على اقامة نظام سياسي تعددي وفق مبدأ “لكل مواطن صوت”. هذا الوعي جعله يترفع على المهاترات، بل ويرفض محاولات العصابة الحاكمة تفريق المواطنين وفق خطوط التمايز العرقي او الديني او المذهبي. ولذلك بقيت المعارضة للاستبداد الخليفي متعددة الاطياف الدينية والسياسية، وشعر البحرانيون الاصليون (شيعة وسنة) انهم متوحدون في رؤاهم وتطلعاتهم وكذلك معاناتهم على ايدي الخليفيين. وما اجمل المجتمع الذي تتعدد فيه الآراء والمواقف ضمن مبدأ التلاحم الوطني، فذلك إثراء للتجربة وتمتين للصف. ولضمان هذا التلاحم الوطني يجدر الاشارة لما يلي:
اولا: ان السجال الفكري والايديولوجي حق مكفول للجميع، ونتطلع جميعا لاقامة منظومة سياسية تحترم التعدد وتسمح بالرأي الآخر والنقد البنّاء والاعتراض على السياسات العامة، الداخلية والخارجية. فلا معنى لوجود حكم يصادر حرية التعبير التي هي من اهم مقومات انسانية البشر، وبدونها يتحول الانسان الى بهيمة تعيش لتأكل فحسب. فالمجتمع الاسلامي الاول كان تعدديا، احتضن المسلم وغير المسلم، ووفر المجال للتعبير الحر بما في ذلك النقد والتقويم. ولا يمكن ان يستقر المجتمع اذا صودرت حرية التعبير والرأي والمعتقد. فهذه السجالات توفر فرصا متكافئة للجميع للشعور بانه ضمن السياق العام لمسار الدولة، وان انسانيته مصونة وحقه في التعبير محفوظ. كما انها تساهم في اشباع القضايا العامة نقاشا بشرط ان يكون السجال موضوعيا وليس عبثيا. ولا يمكن بقاء اي نظام بالقمع ومصادرة حق الآخر في ابداء الرأي والشعور بالانتماء للمنظومة السياسية الحاكمة.
ثانيا: ان السجال مسؤولية دينية واخلاقية ووطنية. وليس منطقيا ان توجه للتهجم او التهكم او ازدراء الآخرين ومعتقداتهم ومواقفهم السياسية. والهدف منها ليس تسجيل المواقف بل التسديد والمشورة والإثراء. ومن غير المقبول ان تتحول الى سباب او انتقام او فضح للآخر. فهناك اجهزة اخرى مختصة بذلك. اما الفضاء العام فيجب ان يبقى مفتوحا لما هو بناء من السجال والنقاش والحوار، سواء عبر اجهزة الاعلام ام التواصل الاجتماعي او وسائل الاعلام ام المنابر العامة كالمساجد والنوادي والمؤتمرات. المجتمع المتمدن هو الذي يتيح هذه الفرص ولا يسعى لمصادرة حق الآخر في التعبير عن الموقف. فهذه المصادرة تستبطن إلغاءه وعدم الاعتراف بوجوده كإنسان له حق الكلام والنقد، وحق استخدام العقل
ثالثا: ان السجال تأكيد لمبدأ العدالة والمساواة، فليس هناك مواطن له حقوق اكثر من الآخرين. بل الجميع متساوون في الحقوق والواجبات، والجميع متساوون امام القانون وفي القضاء والتظلمات. فلا يسمح بان يعلو صوت واحد على بقية الاصوات، او يروج رأي دون الاصوات الاخرى. انها ضرورة اجتماعية وسياسية لتحقيق التوازن المجتمعي الذي يفترض ان يؤدي للسلم والاستقرار. فالسجال يؤدي لتلاقح الافكار وانضاجها، كما يجعل الجميع يشعر بمشاركته ومسؤوليته عما يحدث لانه شريك اساس في المشروع الوطني على كافة الصعدان.
هذه الضوابط الثلاثة لمفهوم السجال والحوار لا وجود لها في المجتمعات المحكومة بالاستبداد السياسي، فالديكتاتور لا يسمح برأي آخر سوى رأيه، ولا يقبل بالنقد بل ان كثيرا من دساتير هذه الدول ينص على ان “ذات الملك او الامير مصونة” اي لا يجوز لاحد المساس بها او مناقشة قراراتها. وحتى في الدول “الديمقراطية” فان هناك “حصانة” للرؤساء ورؤساء الوزارات وربما الوزراء احيانا، وقليلا ما يستطيع احد نقض القرارات التي تصدر عن هؤلاء. ولم تعد وسائل التعبير المتاحة قادرة على التأثير على قرارات الحكومات “الديمقراطية”. فهناك سلطة مطلقة تقترب من الاستبداد المغلف بديمقراطية هشة لا تجعل الشعب شريكا حقيقيا في السلطة او قراراتها.
اما على الصعيد الديني، فالموضوع اكثر تعقيدا لعدم التفريق بين ما هو حكم شرعي وما هو رأي شخصي. وهنا تدخل النقاشات دهاليز تلعب فيها العامة دورا محوريا قد يؤدي احيانا لمنع الرأي الآخر. هذا مع ان الفقهاء انفسهم يتيحون مساحة واسعة للآخرين، ولا يطرحون رأيا ملزما الا في الحالات النادرة. أيا كان الامر فمن الضرورة بمكان فتح الباب للأراء الاخرى في القضايا غير الشرعية، خصوصا ان هذه القضايا كثيرا ما تستعصي على الرأي الواحد، وتتعدد بشأنها الآراء والسياسات. مطلوب ان يتسع صدر من يتصدى للشأن العام للآراء الاخرى خصوصا اذا كان اهلها من ذوي المواقف الشجاعة والوطنية، البعيدة عن التعصب والكراهية. فالدين يقرّب ولا يبعّد، يحتضن ولا ينفّر، يسمح بالاجتهاد في مساحات واسعة ويقلص دائرة الاوامر والنواهي لتنسجم مع ضوابط الشريعة المقدسة.
النقطة الاخيرة ان من يؤمن بضرورة التصدي لقضايا الوطن الكبرى يجب ان يبتعد عما هو هامشي منها، او ما لا يرتبط بالمشروع التغييري الهادف للاصلاح ومحاربة الفساد. فمن غير المقبول ان ينشغل الكوادر الناشطة بالقضايا التي تصرف الانظار عن العدو الاول للوطن والشعب والحرية. ومن المؤكد ان النظام الديكتاتور يخلق دائما قضايا غير ذات شأن لصرف الانظار عن العمل السياسي الذي يستهدفه. ويأمل بجر النشطاء للسقوط في الوحل لقوم بالاشراف على النزاع والصراع الداخلي الذي قد يفتح الباب امامه ليكون واسطة لانهاء النزاع. ما اكثر الحفر التي يفتحها النظام الاستبدادي في طريق معارضيه هادفا للايقاع بهم. ولكن في الوقت نفسه ما اعظم المناضلين الذين ينأون بانفسهم عن ذلك ويركزون جهودهم لمواجهة الاستبداد والظلم، ويمنعون الانحراف عن الطريق المؤدي للهدف. شعبنا صامد على دربه، يرفض التطبيع مع العدو الخليفي وغيره من المحتلين، كما يرفض ان يحرف عن مساره النضالي المشرّف الذي يستهدف اعداء الله والوطن والانسانية والحرية، ويؤكد اصراره على مواصلة النضال حتى يتحقق التغيير، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
اللهم ارحم شهداءنا الابرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الاسلامية