عقد كامل بعد الربيع العربي: الشعوب أكثر إصرارا على تحقيق التغيير
في مثل هذه الايام قبل عشرة اعوام كان العالم العربي يعيش انطلاق ثورات الربيع في إثر الصاعق الذي فجره حرق الشهيد محمد بوعزيزي نفسه في 16 ديسمبر 2010. فقد انطلقت الثورة التونسية وعمت البلاد في بضعة ايام، وفشلت آلة القمع التي كان زين العابدين بن علي يديرها في كسر شوكة الثائرين الذين قرروا إنهاء تلك الحقبة السوداء. ومرت ذكرى انطلاق ثورة مصر في 25 يناير، واعقبتها ثورة اليمن في 27 يناير ثم الثورة البحرانية في 14 فبراير والثورة الليبية في 17 فبراير. وحدثت احتجاجات في سوريا والمغرب وسلطنة عمان، في اجواء لم يشهدها العالم العربي منذ الستينات، في زخم الاطروحات اليسارية والقومية والثورات ضد الاستعمار (الجزائرية والبحرانية (1965) بالاضافة لحرب ظفار وثورة عدن ضد البريطانيين). وهناك من يشكك في اسبابها ودوافعها، ويدعي انها حدثت بإيحاءات غربية، ولكن الحقيقة انها كانت جميعا تعبيرا عن احتقان داخلي مختزن لدى الشعوب العربية الرازحة منذ عقود تحت انظمة استبدادية مطلقة. لقد فاجأت تلك الثورات النظام الرسمي العربي وداعميه في واشنطن ولندن، فلم يستطع احتواء الموقف في البداية. وبعد اسابيع من التعاون الامني والاستخباري بين اجهزة امن دول المنطقة والدول الغربية انطلقت الثورة المضادة بأقسى ما يمكن. وهنا تولد تحالف الثورة المضادة من السعودية والامارات ومصر والخليفيين في البحرين و”اسرائيل”، مدعوما بالتحالف الانجلو – امريكي. فحدث ما حدث بشكل وحشي لم يتوقع احد حدوثه. فقد كان ثمة اعتقاد وهمي ان الغربيين سيكونون اوفياء للشعارين اللذين رفعوهما منذ بداية الحرب الباردة: ترويج الديمقراطية وحماية حقوق الانسان. ولكن ذلك لم يحدث، بل تركت الشعوب لتدفع أغلى الاثمان بسبب نهضتها. فاكتظت السجون وانتشر التعذيب على اوسع نطاق وأنشئت المقاصل وأعدم المئات، وعاد الوضع السياسي أسوأ مما كان عليه قبل تلك الثورات. ولضمان نجاح اعادة تمكين الطغاة من رقاب الناس، استخدمت أقذر الاساليب، وفي مقدمتها الارهاب والطائفية والتطرف لتوفر ذريعة للقمع الذي لم يتوقع حتى اليوم.
وها هي الشعوب العربية تستذكر تلك الثورات، بالغضب المختزن الذي يزيد الاحتقان، والاحباط من الغرب ومشاريعه واطروحاته، ومن النخب التي تخلى قطاع واسع منها عن الجماهير سواء على مستوى العلماء او المفكرين او الكتاب او الاعلاميين. ونجم عن ذلك اربع ظواهر مفزعة جدا. اولاها اعتبار القمع امرا طبيعيا، فلا يرف طرف او تدمع عين لسماع خبر تعذيب او إعدام يطال من شارك في تلك الثورات. واصبحت انظمة القمع مدعومة بشكل غير مسبوق من التحالف الانجلو- امريكي بالاضافة للدعم الاسرائيلي. ثانيتها: إعادة صوغ النظام السياسي العربي ومحاور القوى فيه، بما يمكن اعتباره انقلابا على توازن القوى التقليدي الذي كانت مصر فيه مركز الثقل العربي سياسيا وثقافيا وعسكريا. ومنذ 2011 قفزت السعودية والامارات لتحتل موقع الصدارة ما في ذلك السيطرة على الجامعة العربية. ثالثتها: فرض السعودية والامارات نفسيهما كمصدر لتقرير شكل النظام العربي في شكله العالم ودعم قراراتهما التي شملت تحديد نتائج كل من الثورات العربية. فسعت لتغيير الواقع في العراق وسوريا بالعنف والارهاب والطائفية، وحصرت التغيير في تونس ومصر واليمن بتغيير رأس النظام في كل منها، وتدخلت عسكريا في البحرين لقمع ثورتها. اما في اليمن فقد شنت حربا مدمرة على الشعب اليمني عندما تمرد على ما يسمى “المبادرة الخليجية” التي سعت لحصر التغيير بشخص الرئيس فحسب وفرضت نائبه، عبد ربه هادي، رئيسا، تماما كما فعلت في تونس ومصر. رابعتها: فرض واقع جديد على الشرق الاوسط يتماهى مع الاحتلال الاسرائيلي ويصادقه ويعقد المعاهدات معه، ويتنكر لمن يعاديه خصوصا ايران، ويعادي حملة المشروع الاسلامي.
هذه الحقائق اصبحت تفرض نفسها على الواقع العربي في المرحلة الراهنة. وكان من نتائج ذلك ضعف العالم العربي سياسيا واقتصاديا. وساعد قوى الثورة المضادة في تمرير مشروعها هذا سيطرة اللوبي الاسرائيلي على القرار الامريكي الخارجي منذ عهد اوباما. وبمجيء دونالد ترامب اصبح الوضع مهيّا لفرض المشروع الانقلابي الذي قادته قوى الثورة المضادة على المنطقة. وكانت السنوات الاربع من حكمه عصرا ذهبيا لبسط تلك القوى نفوذها على المنطقة. وعوّضت ترامب في مقابل ذلك بمئات المليارات من ا لدولارات. بل سعت لإنجاحه في الانتخابات الرئاسية الاخيرة. وعاش العالم العربي حقبة هي الاكثر سوادا في تاريخ المعاصر. وبسبب سياسات قوى الثورة المضادة واستهدافها المباشر لايران وحركات المقاومة وحاملة لواء المشروع الاسلامي السياسي، تراجت قضية فلسطين سياسيا وإعلاميا، وتمت إعادة صياغة ذهنية الجيل العربي الشاب لتصبح اكثر قبولا بالمشروع الصهيوني والتخلي عن فلسطين. هذا الانقلاب السياسي والاخلاقي والقيمي جاء كردة فعل حاسمة على الربيع العربي الذي كاد يجتاح المنطقة ويسحق القوى التي اعادت تنظيم نفسها ضمن تحالف قوى الثورة المضادة. وعمدت تلك القوى لاعادة صياغة النفسية والذهنية والتوجه في اوساط المجتمع الخليجي لتعميق ظاهرة الخوف والتردد والانطواء والابتعاد عن الانشغال بالشأن العام، على امل ان تكون انظمة القمع في مأمن من التحديات الشعبية والثورات الوطنية. وقد لعب المال النفطي دورا محوريا في “تأميم” الرأي العام بشراء الكتاب وعلماء الدين والنشطاء، مدعوما باساليب التأثير النفسي التي وفرتها الخبرات الاسرائيلية والبريطانية. ولا شك ان ذلك ساهم في كسر ارادة بعض المناضلين، ولكن ما اكثر الشرفاء من المناضلين الصامدين. وفد جاءت قضية الشيخ زهير عاشور الذي غيب قسريا ستة شهور متواصلة لتعيد الحيوية الى دور السجناء السياسيين في إبقاء شعلة الثورة في النفوس. هذه القضية وحدها كشفت حقيقة العصابة الخليفية وطغاتها، واعادت الثقة الى قطاعات واسعة من الشباب، وفتحت ملف التعذيب على مصراعيه مجددا بعد ان كشف تفصيلات عما تعرض له من تعذيب على ايدي الخليفيين.
وعلى صعيد البحرين، فبعد الاجتياح العسكري السعودي – الاماراتي والتدخل الامني البريطاني المباشر، كاد مشروع الانقلاب على الشعب ينجح لولا الارادة الالهية والصمود الشعبي الذي لم يتزحزح برغم الضربات الامنية المتواصلة. فقد دعمت قوى الثورة المضادة العصابة الخليفية على كافة الصعدان، فبالاضافة للاجتياح العسكري في منتصف مارس 2011 حصل الخليفيون على عشرة مليارات دولار لدعم موقفهم في مقابل الشعب، فتلاعبوا بها واقتسموها، ولم يحصل الشعب منها شيئا. وعمدت تلك القوى لتلميع صورة الخليفيين فسعوا لدعم مرشحهم لرئاسة الاتحاد الدولي لكرة في القدم في 2016. ولكن الله أفشلهم وأهانهم. وكادوا يحققون تآمرا آخر على الشعب بدعم المرشح الخليفي لرئاسة مجلس حقوق الانسان، ولكن العناية الالهية تدخلت وهزمت تلك القوى المجرمة، وهزم الخليفيون امام فيجي التي فازت بالمنصب. وواصلت تلك القوى دعمها لاقامة سباق فورمولا الدم في البحرين، وقدم الشعب في معارضته لهذه السباقات تضحيات كبرى ما بين شهداء (صلاح عباس في 2012) ومعتقلين سياسيين في مقدمتهم ريحانة الموسوي ونفيسة العصفور ونجاح يوسف وسواهم. لقد اعتبرت قوى الثورة المضادة البحرين قضية مصيرية بالنسبة لها، فنجاح ثورة الشعب البحراني ستؤدي لتوسع دائرة الثورات الخليجية، ولذلك اكتظت سجون السعودية والامارات بشكل خاص بسجناء الرأي، بينما استمرت سياسات الاعدام للمعارضين السعوديين. وكان ذبح الشهيد الشيخ نمر النمر في الاسبوع الاول من يناير 2016 رسالة واضحة لشعبي الجزيرة والبحرين، فوجهت له تهم مزيّفة تتناقض تماما ما خطاباته التي اظهرتها مؤخرا تسجيلات بالصوت والصورة نشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وكشفت تحضر خطابه السلمي مؤكد ان “سلاح الكلمة أقوى من رصاص الحاكمين”.
في هذه الذكرى العاشرة نؤكد ثبات شعبنا العربي عموما والبحراني بشكل خاص على مطالبه بالتغيير السياسي وانهاء عهود الاستبداد والظلم. وستستمر حراكات الشعوب وتتوسع خصوصا مع فشل التحالف السعودي – الاماراتي – الخليفي في العدوان على اليمن وهزيمته امام قطر، وعجزه امام ايران والعراق وسوريا ولبنان واليمن، وبداية تصدعه من الداخل، بالاضافة للتغيرات الدولية وفي مقدمتها هزيمة ترامب. وبهذا يبدو مستقبل شعوبنا مشرقا، ومستقبل الطغاة مكفهرا، وعلى الباغي تدور الدوائر.
اللهم ارحم شهداءنا الابرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الاسلامية
29 يناير 2021