قضية السجناء تختصر أزمة البحرين مع عصابة مارقة
لم يكن ما يجري هذه الايام من حراك شعبي متواصل وليد لحظته، بل يعتبر تراكما لمشاعر عميقة بظلامات تاريخية تحمّلها منذ عقود. فالمرأة التي تخرج يوميا لتقف على الشارع العام مطالبة باطلاق سراح ابنها او اخيها او زوجهات تحمل في داخلها غضبا شديدا تراكم في داخلها منذ ان جاءت الى الدنيا. فقد قرأت تاريخ آبائها وأجدادها وأدركت ما حل بهم من مصائب ونكبات على أيدي الحكم الخليفي الذي نكل بأهل البحرين الاصليين (شيعة وسنة) منذ ان دنست أقدام رموزه البلاد، واتخذت قرارها بان تحكمها أرضا بلا شعب أصلي. ومنذ اكثر من عشرين عاما بدأ الطغاة الحاليون فصلا جديدا لتحقيق ذلك الحلم العنصري بتنفيذ مشروع إبادة بهدوء. هذه المرأة تدرك ذلك وتعلم انها ان لم تتحرك اليوم لانقاذ معتقليها فقد تفوت الفرصة ويلتحقون بمن سبقهم من شهداء البلاد من ضحايا الارهاب الخليفي. ربما استغرب البعض ان ينطلق الشعب مجددا بعد عشر سنوات من القمع المتواصل الذي تشارك فيه قوى شريرة من بلدان عديدة، توافقت على سياسات شيطانية تهدف اساسا لفرض العصابة الخليفية على البلاد لانها أداة طيّعة للأجانب منذ اكثر من مائتي عام. انه فصل في تاريخ أوال الذي تعاقبت فيه قوى الاحتلال بدوافع سياسية واقتصادية في اغلب الاحيان.
عشرة اعوام هي الفترة التي قضاها اغلب السجناء السياسيين في أقبية السجون الخليفية. وهي فترة طويلة بأي مقياس، خصوصا لشعب عرف ماضيا وحاضرا بطبيعته السلمية ودماثه خلقه وطيب سجاياه وإيمانه بربه وقضاياه. فترة السجن هذه لم تكن محصورة بالتغييب الجسدي عن العالم الخارجي فحسب، بل كانت تعذيبا متواصلا يبدأ في اللحظات الاولى لعملية الاعتقال، حيث اقتحام المنازل في الليالي المظلمة، وكسر الابواب، وترويع الاطفال وتخريب الممتلكات، وهتك الاعراض. ثم تتواصل منذ صعود المعتقل سيارة الجلادين، حيث يبدأ التعذيب الرسمي بالضرب والشتم والاهانات النفسية. وما ان تحط قدما المعتقل في دوائر التحقيق خصوصا في طوامير ما يسمى “جهاز الامن الوطني” حتى يبدأ التعذيب الرسمي الذي أكد تقرير بسيوني انه “ممنهج” بكافة الأساليب، ومنها الضرب المبرح والركل والتوقيف اياما متواصلة وعصب العينين لكي لا يتعرف الضحية على هوية الجلاد، واستخدام الادوات الكهربائية بأنواعها والتعليق من السقف من اليدين والرجلين، والحرمان من النوم، والتهديد بهتك العرض، والتحرش الجنسي وسواها. والهدف من ذلك امور عديدة: اولها القضاء على انسانية البحراني، وثانيها كسر إرادته فيصبح أداة طيّعة ينفذ ما يطلبونه، ثم الحصور على اعترافات مزورة لتنسجم مع ما يريدون بثه من رواية للعالم الخارجي لتبري القمع والاضطهاد. هذه ليست قصة جديدة بل استمرار لنهج متواصل منذ الانسحاب البريطاني قبل خمسين عاما واستلام الضابط الاستعماري البريطاني المقبور، إيان هندرسون، شؤون الامن الداخلي للعصابة الخليفية.
وهناك جهاز آخر لا يقل تعذيبا، بل انه شريك في ما يحدث للأسير البحراني، وهو جهاز “القضاء” الذي تنحصر مهمته بإعلان قرارات السجن او الإعدام حسب أوامر الديوان الملكي. والقضاة ليسوا سوى أجساد منصوبة على الكراسي، ليس لديها عقل او ضمير او انسانية. فهي لا تشعر بمعاناة الضحية ولا تسمع أقواله. فمهما تحدث عما جرى له من تعذيب، لم يأمر أي من هؤلاء “القضاة” بتسجيل اقوال الضحية او التحقيق فيها او تأجيل النطق بالحكم الذي استلمه من الديوان الملكي الى ما بعد ذلك. هذه “المحاكمات” مصداق للجور والظلم بشكل كامل. ففي جلسة واحدة او جلستين للنظر في قضية كبيرة حسب الإعلام الخليفي، يتم اصدار احكام بالاعدام او السجن المؤبد بحق عشرين متهما. فأية عدالة في هذه المحاكم القرقوشية؟ القرار القضائي سياسي بشكل كامل، تنحصر مهمة “القاضي” فيه بالنطق به فحسب، وليس من حقه النظر في استئنافه او التحقيق في ملابساته مهما حاول الضحية او محاموه. ويندر ان يتغير الحكم او يخفف او يتم استدعاء الجلادين الذين عذبوا الضحية. وكثيرا ما تكون المحاكمات سرية وبسرعة فائقة، ولا يحق البوح بما يجري في دهاليزها. وهكذا اصبحت المحاكم الخليفية ثكنات عسكرية هدفها الدفاع عن الطغاة وحماية الجلادين والانتقام من السكان الاصليين (شيعة وسنة).
معاناة السجناء لا تنتهي بصدور القرار الخليفي بسجنهم، بل تبدأ معاناة أكبر كثيرا ما أحدثت للكثير منهم عاهات جسدية. فالتعذيب يتواصل في السجون التي تفتقر لأدنى معايير السلامة والصحة والنظافة. تؤكد ذلك الصور التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فالزنزانة التي بنيت في الأساس لتضم اربعة أشخاص يتم تكديس ثلاثة اضعاف العدد. وعندما تضيق الزنزانات يضطر السجناء للنوم في الممرات بجانب القمامة. وإذا ما احتج سجين على وضعه نقل مباشرة لزنزانة انفرادية ليقضي فيها شهورا. اما العناية الطبية فتكاد تتلاشى تماما. فمن يشكو من امراض باطنية او تسوس في الاسنان فان علاجه في اغلب الاحيان يقتصر على العقاقير المسكنة للألم. وإذا تداعى وضع السجين وخشي السجانون وفاته، قاموا بتقييده بالسلاسل ونقله الى مستشفى خارجى ليعطى ادوية محدودة يعود بعدها الى المكان الذي لا يصلح للبهائم فضلا عن البشر. وما أكثر الشباب الذين دخلوا السجن في وافر الصحة فتداعت اوضاعهم الصحية واصيبوا بعاهات وامراض من بينها السرطان وألأمراض الباطنية والعصبية. لقد تحول السجن الذي يتم توسيعه بشكل متواصل خصوصا سجن اجو الذي اصبح في واقعه مدينة للتعذيب، الى موقع لانتاج الكوارث الانسانية. هذه الحقيقة ليس لصالح الطغمة الحاكمة. فهذه الكوارث صنعت أجيالا من البحرانيين ترفض بشكل مطلق استمرار الحكم الخليفي بعد ان ولغ في دماء الابرياء ونكل بالاحرار وأصبح وبالا على الوطن والشعب، وأثقل كاهل العائلات بالآلام والأحزان. وبهذا تأسست معطيات ثورة شعبية مقبلة أشد من سابقاتها، وليس مستبعدا ان تنجح بإسقاط الحكم الخليفي الذي انتهى منذ أمد، وأصبح بقاؤه مرتبطا بالدعم الاجنبي.
الخليفيون رفضوا حتى الآن السماح للجهات الحقوقية الدولية بزيارة البلاد سواء لزيارة السجون او مقابلة عائلات السجناء. وقد كلّ لسان المقرر الخاص للتعذيب التابع للامم المتحدة السابق، خوان منديز، من التقدم بطلب زيارة البحرين، ولكن بدون جدوى. وحتى هذه اللحظة يرفض الخليفيون السماح للمقررين الخاصين التابعين للامم المتحدة او المنظمات الحقوقية الدولية المعروفة بزيارة البلاد والاطلاع على اوضاع السجون المعتقلين. وبدلا من ذلك، وبناء على نصائح من داعمي الخليفيين، أنشأ الخليفيون منظمات “حقوقية” تمارس ادوارا مناقضة تماما لادوار المقررين الخاصين، ومهمتها تبرير القمع والاضطهاد والتعذيب والاعتقال التعسفي، وتفنيد شكاوى الضحايا، والدفاع عن الخليفيين باساليب مقززة امام الجهات الحقوقية الدولية. ويعتبر الشعب هذه المؤسسات والعاملين فيها شركاء في الجرائم الخليفية بشكل كامل، فهم لا يكتفون بالسكوت بل يمارسون ادوارا فاعلة اما لنفي وقوعها او لتبريرها. وقد طالبت المعارضة منذ سنوات بمقاطعة هذه المؤسسات جملة وتفصيلا وعدم الاعتراف بوجودها لاسباب عديدة: عدم جدوى الرجوع اليها، فهي لم توقف تعذيب مواطن يوما، او اطلاق سراح معتقل او تخفيف الحكم عن مظلوم. ثانيها: ان اللجوء اليها يضفي عليها شيئا من الشرعية ويوهم القائمين عليها انهم يحظون بثقة المواطنين، بينما يعتبرها المواطنون أدوات للنظام كما هو جهاز التعذيب وجهاز القضاء وجهاز الشرطة. فكل شيء في البلاد مسخر لخدمة الخليفيين والدفاع عنهم امام الشعب اولا وامام الجهات الدولية ثانيا. ثالثها: ان النظام أنشأها لتكون بديلا للجهات الدولية المستقلة التي تتسم بقدر من الحياد. فشتان بين تقرير تصدره منظمة العفو الدولية او هيومن رايتس ووج او آيفكس او فرونت لاين ديفندرز، وتقرير تصدره ما يسمى “الهيئة الوطنية لحقوق الانسان”، لان مهمة كل من هذه المؤسسات متضادة تماما.
هذه التطورات تشير الى منحى تصاعدي في الحراك الشعبي الهادف لتحقيق تغيير سياسي جوهري في منظومة الحكم. ومن المؤكد ان اساليبه التضليلية تساهم في تأجيل سقوطه، ولكن التضليل لا يمكن ان يبني دعامات ثابتة لنظام سياسي متين. والنتيجة المنطقية ان تراكم نضال البحرانيين الاصليين (شيعة وسنة) سيحقق في المستقبل المنظور، بإذن الله، أهداف الوطن والشعب التي ناضلت من اجلها اجيال متعاقبة، وقدمت أغلى التضحيات على طريقها.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الاسلامية
23 أبريل 2021