كلمة وفاء للشيخ المقداد: الخطيب الذي نعى الحسين وسار على خطاه
روحك الكبيرة عبرت الزمن الطويل، ووصلت الى كربلاء، ورأت هناك مشاهد الدم القاني من نحور الشهداء، فهوت على تلك النحور تقبلها وتشم عبق اريجها، انه ريح الشهادة، وأريج الصمود، وعبق الكرامة. تلك الروح يا شيخ القراء، أبت الا ان تكون حسينية، فاختصرت المسافات الطويلة حتى وجدت نفسها في جسد يعتلي المنبر لهدف واحد: تبليغ رسالة الحسين عليه السلام التي وعتها بصيرتك، واستلهمت منها معاني الاباء والصمود والتصدي للظلم.
ولذلك كنت حسينيا حقا، لم يساورك الشك يوما في عدالة موقفك، فما دام هناك يزيد، فلا بد ان يكون هناك حسين. لقد تعلمت من أبي الاحرار ان المؤمن يعيش حياة واحدة لا تكتمل الا باداء الشهادة، وهي شهادة باللسان او الفم او اليد: “أيها الناس، إن رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله”. بحثت عن الحسين فوجدته واقفا يوم عاشوراء ليصنع لآمة الاسلام مجدا وتاريخا وحضارة، وليوجه للحزب الاموي صفعة تخزيه الى يوم القيامة. رأيت الحسين وحيدا، ليس معه الا ثلة قليلة، فاستغربت لقلة ناصريه، وأيقنت من تلك اللحظة ان الحق ليس مع الكثرة “وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين”، “وان تتبع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله”. عندها ايقنت ان القلة هي التي تصمد على طريق ذات الشوكة “ثلة من الاولين، وقليل من الآخرين”، وادركت معنى قول علي عليه السلام: “لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه”. ثم يممت ببصرك نحو يزيد فرأيت المنتفعين والانتهازيين والمتسلقين، وشهداء الزور، وعلماء البلاط، وبعضهم ممن شهد رسول الله وروى حديثه. كان لكل منهم منطقه الخاص واتباعه الذين أغمضوا عيونهم وصكوا أسماعهم وقفلوا عقولهم، فهم ينعقون وراء الناعقين، ويتخلون عن عقولهم وفيضمر الواحد منهم حتى يلغي وجوده وعقله ويتحول الى بهيمة همها علفها.
عندما تكون الفتوى في خدمة السلطان، تتراجع الامة ويتلاشى الايمان ويتحول دين الله الى وسيلة للترف والامن الموهوم. والصمت على ظلم الحاكم لا يقل خطره عن اصدار الفتاوى الدعامة، فهو يتشجع بشرعنة ما يفعل، ويتشجع بعدم الاعتراض الفاعل على ما يمارس. فالساكت عن الحق شيطان اخرس، كما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما يساق الاحرار الى المشانق والمقاصل والزنزانات، لا يبقى للامة وجود حقيقي لان الكيان الذي يشيد على اجساد الاحرار وجماجم الشهداء لا يدوم. كنت ايها الشيخ القابع في طوامير يزيد، وانت تحدد موقفك وتخط طريقك، مقتنعا ان الحسينيين نصيبهم الشهادة، وطريقهم تخطه الدماء، ولا تعبده الا اجسادهم التي تمزقها ادوات التعذيب. وكان اقتناعك بالخط الحسيني عمليا، وعندما كنت تردد على منبرك الذي علوته منذ نعومة اظفارك، مقولة السبط الشهيد: ان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة” كنت مقتنعا بتلك الكلمة التي تختصر الموقف الرسالي المسؤول عندما يزداد ظلم الحاكم، لم تكن واحدا من “العلماء” الذين يرون مسؤوليتهم ناقلين للعلم، غير متأثرين به، فهم كمثل الحمار يحمل اسفارا. بل كنت تمارس قول علي عليه السلام: “من نصب نفسه إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه”. فكيف تنقل استغاثة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، بدون ان يكون لها صدى في نفسك: “اما من ناصر ينصرنا”، تكرر هذه الكلمات ليس من اجل سرد وقائع تاريخية بل لكي تاخذ مكانها في حياتك، فما دمت تحث الناس على اتباع الحسين عليه السلام ونهجه، فعليك ان تبدأ بنفسك. وهذا ما تصدقه الوقائع والحوادث. لقد سرت انت واخوتك على طريق الحسين واصحابه، تواجهون يزيد وجلاوزته، غير عابئين بما يفعلونه، فالحسينيون اقوى من يزيد وكيده، فهو قابع في قصره، خائفا، ترتعد فرائصه من صرخات الحق المنطلقة من حناجر المؤمنين، ولكنه يسلط زبانيته على الحسينيين، ليقتلوهم ويمثلوا بهم أيما تمثيل.
يطل موسم العاشوراء، وانت واخوتك مغيبون في طوامير الأمويين. ولكن ما اكثر الذين سوف يصعدون المنابر، ويكررون اقوال الحسين عليه السلام، وسيرته، يروونها قصصا تاريخية للتبرك، بدون ان يكون لها انعكاس على واقعهم. فيزيد حاكم ظالم عاصر الحسين عليه السلام، واختلفا واستشهد الحسين واصحابه في كربلاء، فعليه فليبك الباكون. وهكذا تنتهي قصة عاشوراء بالتعاطف مع الشهداء والبكاء عليهم، بدون ان يكون لذلك اثر يذكر. سوف يكرر الكثيرون مقولات الحسين عليه السلام واهل بيته واصحابه، وسوف يتسابق القوالون في صياغة اقوى العبارات وأشد الخطابات، ولكن، سيظل يزيد العصر قابعا في برجه العاجي، مستمرا في سجن العلماء وتعذيب الاحرار، كما حدث مع الحسين واصحابه. كانوا نيفا وسبعين نفرا “خرجوا” على الامير فقتلهم، فانا لله وانا اليه راجعون. ما هو الايمان؟ وما هي الثورة؟ وأين هي القيم والاخلاق؟ وأين النصرة؟ وأين نداء الحسين؟ وأين مفاهيم الاسلام؟ لولا انتم ايها الرازحون في طوامير البيت الاموي، الذين جسدتم مواقف الحسينيين، لاستطاع البغاة الامويون تمرير مشاريعهم، ولاستحقت الامة عذابا من الله لمسايرتها الطغاة اليزيديين. انتم وحدكم جسدتم رسالة الحسين عليه السلام، وصرختم بوجه الظلم، وقدمتم اجسادكم فداء للدين وكرامة الانسان. قرأتم سيرة ابي عبد الله عليه السلام واستمعتم عتابه التاريخي: ان لم يكون لكم دين، فكونوا احرارا في دنياكم”. نتشبث بالحرية كلمة بلا مضمون، ونتمناها بدون جهد، استمرأنا العيش مع الظالمين، وتسابقنا لاثبات الولاء للحسين شخصا وتاريخا، وليس رسالة وثورة. بل قلنا ان الحسين لم يكن ثائرا، بل اضطر للمواجهة. اننا مستعدون لتغيير التاريخ وقيمه، ونفي الثورة عن الحسين لنحمي انفسنا من المساءلة: لماذا انتم صامتون؟ كيف تتعايشون مع يزيد؟ لقد أفرغنا الثورة الحسينية من محتواها ومضامينها، وحولناها الى مصيبة شخصية يستحق اصحابها الرثاء والتعاطف فحسب، بدون ان يكون لها انعكاس على حياتنا. فما أتعسنا من شيعة غير اوفياء، نحرف التاريخ لنبرر التقاعس والتخاذل ومسايرة الظالمين، ولا نكتفي بذلك بل نضفي على ذلك صبغة دينية وولائية، فأين نحن من عذاب الله!
الذين استشهدوا احتذوا حذو الحسين، والذين اعتقلوا وعذبوا في الطوامير الخليفية يدفعون ثمن التصدي للسلطان الجائر، كما حث الحسين، فكان منهم الشيخ والشاب، عالم الدين والطبيب والمعلم، وكل منهم قام بدوره في موجهة الطاغوت الاموي، فنالوا جميعا الشهادة ليعيشوا خالدين. اما الذين لم يستجيبوا للنداء الحسيني فلم يحققوا ما اراده: من لحق بنا استشهد، ومن تخلف عنا لم يبلغ الفتح”. ايها الشيخ المجاهد، لحقت بالركب الحسيني خطيبا وشهيدا وشاهدا، لانكم استوعبتم رسالة الحسين، ولم ترددوا شعارات الحسين لقلقة باللسان، بل كانت مشروعا لحياتكم، فكنتم مصاديق حية للتشيع المحمدي، والجهاد العلوي والشهادة الحسينية. فطوبى لكم في المجاهدين الخالدين، الصامدين، والخزي لاعدائكم، اعداء الشعب والانسانية. والسلام على الحسينيين اينما كانوا، فهم ضمير الامة ومصاديق الشهادة، والساعون الى الخير دائما، جعلنا الله معهم وحشرنا مع الحسين وجده وابيه، وابعدنا عن الامويين المتقدمين والمتأخرين، آمين رب العالمين
اللهم ارحم شهداءنا الابرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الاسلامية
3 ديسمبر 2010