قداسة الكلمة تمنعنا من تبجيل الطغاة، او مجافة المظلومين
ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد
بالكلمة يدخل المرء الاسلام ويخرج منه، وبها يؤمن او يكفر، وقد سخر الله ملائكة لمراقبة ما يتفوه به الانسان، ليسجل ذلك في صحيفة اعماله، ويحاسب بها امام الله المقتدر الجبار. هذه الكلمة تعتبر من أكبر أنواع الجهاد اذا قيلت للتعبير عن حق امام سلطان جائر. وقد عمد الطغاة لمصادرة الكلمة الحقة بقطع ألسنة قائليها، وهذا ما فعله عبيد الله بن زياد مع رشيد الهجري، لانه كان يعبر عن ولائه لعلي بن أبي طالب، وما فعله مسيلمة الكذاب مع حبيب بن زيد عندما رفض الاعتراف بنبوته.
وقد عرف الصحابي الجليل، صعصعة بن صوحان بحسن بيانه، وكان يعرف قيمة الكلمة، فتحاشى ان يطلقها جزافا، فالكلمة لديه موقف، وتعبير عما يختلج في النفس، فآبى ان يساير معاوية او يذعن له في ما يطلب خصوصا عندما طلب منه ان يسب عليا عليه السلام. قال له معاوية : والله لاجفينك، عن الوساد ولاشردن بك في البلاد .فقال صعصعة : والله إن في الارض لسعة وان في فراقك لدعة، فقال صعصعة : الاب والام ولداني ومن الارض خرجت واليها أعود. فكان عقابه النفي الى البحرين التي عاش فيها حتى لقي ربه. وفي الحديث الشريف: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا او ليصمت. وجاء في حديث آخر: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله”. وقد دأب الطغاة على استنطاق الناس، وفحص ولائهم وفق ما يتفوهون به. ويطرب هؤلاء الطغاة بكلمات المدح والثناء والتبجيل والتعظيم. فالشيخ حمد مثلا يتأرجح طربا عندما يصك مسامعه وصفه بـ “جلالة الملك” او يوصف مشروعه الذي دمر به البلاد والعباد بـ “الاصلاحي” او يوصف كل من جلاوزته وأفراد عصابته من المعذبين والمختلسين والمتآمرين ضد البحرانيين بـ “الموقر” او “سعادة فلان”. بينما اعتاد المناضلون ان تسلب منهم حتى القابهم العادية عندما يحل عليهم سخط اولئك الظلمة، فيطلق على الواحد منهم “المدعو عبد الامير الجمري” او غيره، وتنشر صورهم في وسائل الاعلام السلطوية بدون ازيائهم الرسمية، كل ذلك امعانا في اذلالهم والاستخفاف بقيمتهم.
ويبدو احيانا ان ا ساليب الطغاة هذه قد تحقق بعضا من اهدافها. فيبادر البعض للالتزام باوامرهم بذريعة الحفاظ على النفس و “الواقعية” و “العقلانية” و “الحذاقة السياسية”. وهكذا تضيع المباديء وتتحول القيمة الدينية او الايديولوجية التي يستند اليها المشروع السياسي للمعارضين، الى قضية هامشية خاضعة لمعايير “المصلحة” والتفسيرات الشخصية. ويخطيء من يعتقد ان ثقافة “ما بعد الحداثة” التي تفرض نفسها على قطاعات واسعة من المجتمعات الغربية، ما تزال بعيدة عن مجتمعاتنا، بل يمكن القول ان ما تشهده الساحة السياسية، خصوصا في البحرين، يؤكد ان المنطق الذي يحكم تلك الثقافة قد تعمق في التفكير السياسي ليس لدى من يوصمون بالعلمانية فحسب، بل في الوسط الديني نفسه. فاخضاع المسألة المبدئية (الدينية) لمنطق “الواقعية السياسية” أحد معالم الفكر (ما بعد الحداثي)، و “التبعيض” في ما يؤخذ وما يترك من الاطروحة الدينية او السياسية معلم آخر من معالم هذا الفكر، و التخلي عن سمة “القداسة” في المشروع الفكري والديني معلم ثالث منها. هذا الفكر (ما بعد الحداثي). والتنظير المتواصل لامكان تطويع ذلك المشروع بحيث يتعايش في ظل نظام يستهدف القضاء عليه، معلم رابع. والسعي المتواصل لسلب المقاومة الذاتية المختزنة لدى اصحاب المشروع الفكري او الديني او السياسي، للوضع السياسي الذي يفرضه الطغاة، خامس هذه المعالم للفكر (ما بعد الحداثي). وربما الأخطر من ذلك ان يتم “تطوير” الفقه ليكون قادرا على استصدار فتاوى لشرعنة الصمت والاستسلام والانقياد وفرض ثقافة التعايش مع الاستعباد والاستعمار (في ظل الاحتلال ايا كان شكله) والاستحمار. كل ذلك من معالم الفكر (ما بعد الحداثي) في الدائرة الدينية. وتؤكد وقائع التاريخ ان أشد اشكال الاستبداد هو ذلك الذي نشأ بدعم من أساقفة البلاط في الغرب او وعاظ السلاطين وعلماء البلاط في عالمنا الاسلامي.
في مثل هذا الوضع تصبح ظاهرة أبي ذر الغفاري مستنكرة لانها تؤجج الوضع ضد الحاكم الذي يتلاعب بأموال الامة وثرواتها، وضد مصادرة حق المواطنين في المشاركة السياسية، وضد توزيع المناصب السياسية والادارية العليا على بطانة الحاكم واقربائه. فلا يعود قرار نفي أبي ذر الى الربذة امرا مستنكرا بعد ان استطاع الحاكم سلب ارادة المقاومة والمعارضة من الاغلبية واستطاع تخديرها تارة بالترغيب واخرى بالترهيب. ويصبح التسابق على كيل المديح للحاكم الطاغية ومن يسير في ركابه ظاهرة غير مستنكرة، وتصبح الاصوات التي تنكر سياسات الحاكم خارج الاطر التي يسمح بها، “مغامرات صبيانية يرفضها العقلاء”. وبهذه المصطلحات والتعبير يتم اعادة صياغة دور العقل من كونه اداة الفصل بين الحسن والقبيح، والعدل والظلم، والصلاح والفساد، في ضوء هدي القرآن، ليحصر في تبرير الصمت امام الظلم والاضطهاد، واداة اقرار لاسلوب “النصيحة” السلبية التي تفتقد ادوات التنفيذ او حتى الالحاح والاصرار. فعندما يرفض الطاغية هذه النصيحة يسقط إلزام تقديمها من منطلق “الحفاظ على النفس والعرض والمال”.
المعارضة البحرانية التي يراد لها النهوض تسعى لاعادة الحياة الى الفكر الجامد، واعطاء العقل دوره في مشروع احياء الاسلام ومشروعه السياسي والثقافي، ولكي يكتمل هذا الدور فانها تسعى لتوفير ما يجعل قوى التغيير مهابة في نظر الطغاة. وان ما قامت به في الشهور الاخيرة مؤشر لمستقبل أكثر عطاء وحماسا للتغيير، وأقل مسايرة للواقع المفروض بالظلم والتضليل. فتدويل القضية، وحرمان الحاكم من الشرعية الشعبية والدستورية، ورفض كافة القوانين التي يفرضها على المواطنين، بدون خشية او خوف، ورفض العمل وفق ارادته وقوانينه وتشريعاته، وخلق ثقافة ضد اساليب التمجيد والتبجيل للنظام ورموزه وجلاوزته، كل ذلك من ضرورات تصعيد وتيرة العمل المعارض. يضاف الى ذلك السعي الحثيث لتدويل قضية الشعب ونقلها الى خارج الحدود، واستسخاف تصريحات رموز النظام (بمن فيهم صعاليكه ومرتزقته)، وابراز قوانينه القمعية بما في ذلك ما اشار اليه وزير داخليته، الذي يشرف على زنزانات التعذيب، قبل يومين من قمع منصوص عليه في المادة 134 من قانون العقوبات، كل ذلك بهدف تهيئة الارضية لسقوط هذا النظام العفن الذي لم يعد يستحق البقاء. ومن ذلك ايضا حث المواطنين على نيل حقوقهم واطلاق سراح أسراهم المظلومين، بما في ذلك تنظيم الاعتصامات خلال مؤتمر حقوق الانسان المزمع عقده بعد ايام، لارغام النظام الخليفي الجائرة على اطلاق اولئك الاسرى بدون قيد او شرط. ان الأمل ليملآ نفوسنا بامكان تغيير النظام الذي يهتريء من داخله بسبب الفساد الذي ينخر في اوصاله. ولنا في ما يجري من حولنا عبرة وعظة، خصوصا التغيير الذي حدث في امريكا وحتمية اندحار منطق الاحتلال والاستكبار والاستعلاء والظلم. فلا بديل عن الأمل، ولا مجال للياس والقنوط، خصوصا بين الجيل الناهض الذي أبى ان يحيد عن طريق آبائه المجاهدين الابطال، وسيرة أئمته وقادته المظفرين عبر التاريخ.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد اسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الاسلامية
7 نوفمبر 2008