ذكرى الشهداء تلهم شعبنا معاني الصمود وتحثهم على التصدي للاستبداد الخليفي
كان وادعا كوداعة أهله، رقيقا كنسيم الخلد التي يتفيأ ظلالها، صادقا في موقفه كمن سبقه من المجاهدين الذين “صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا”. ذلك هو هاني الوسطي، الذي هاجر الى ربه وهو ابن الثانية والعشرين. خرج مصلحا، غير مفسد ولا باغ، ولا باحث عن حطام الدنيا وشيء من متاعها، فذلك ما يبحث عنه الربانيون.
لبى نداء الضمير، فاذا به هاتفا بصوته ضد الاستبداد والظلم. أطلقها صرخة ايمانية من اعماقه ما يزال صداها يتردد في القلوب والاسماع: هيهات منا الذلة. اصبح ذلك الشعار ممنوعا في عهد الطاغية التي لم تعرف البلاد متجبرا ومستبدا وظالما وقاتلا ودمويا مثله، خليفة بن سلمان، أقبح وجه عرفته ارض اوال، مدعوما في قمعه وتعذيبه بخبرات الضابط الاستعماري، ايان هندرسون. لم يكن يفصله عن رفيقه على درب الشهادة، هاني خميس، الا بضعة أمتار. كانا على موعد للحضور في تلك المسيرة، لانهما كانا مؤمنين بضرورة الحضور والمشاهدة، فلا تكتمل مسؤولية المسلم الا اذا كان “شاهدا على عصره، شاهدا على صراع الحق الباطل”، لقد قرآ القرآن واستتوقفتهما الآية الكريمة: “ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم”، كما استوقفتهما آية أخرى في هذا السياق : “ومن أظلم شهادة عنده من الله”. وهل أبلغ من تقديم الشهادة ان تكتب بالدم؟ ذلك الدم القاني الذي انبثق من جسديهما الطاهرين، كان بداية فصل جديد من فصول العزة وا لكرامة للشعب، واذلال الطغاة والقتلة والسفاحين. لقد أذل الله القتلة، فانتهى عهد هندرسون الذي اصبحت لعنة التاريخ تطارده في شيخوخته، ومثلا للسفاح المطلوب للعدالة، وانتهى عهد الجلاد، عادل فليفل، وان كان الله قد أبقاه جسدا خائرا تلاحقه لعنة الامهات ودعوات الثاكلات. اما سيدهم المتفرعن الذي أصبح أكثر جمعا للمال المسروق من قارون، فقد أصبح رمزا لكل ما هو شيطاني وهابط، وهدفا للسب والشتم واللعن والازدراء، ومصدرا يدنس من يلامسه او يقترب منه، ويسقط شأن من يصافحه. انها دماء الشهداء التي تبقى فوارة مدى الدهر، تسير هادرة كالطوفان، تطيح بعروش الطغاة والمستبدين والمجرمين والمتفرعنين.في ذكرى شهادتي البطلين الخالدين، هاني الوسطي وهاني خميس، تعود الذكريات التي عاشتها البحرين وأهلها لتحرك في النفوس حب المواجهة مع النظام الخليفي المجرم، ولتستعيد الكرامة التي نحرت بميثاق العائلة الخليفية المحتلة ودستورها ومجالسها الصورية الجوفاء، ولتضع الشعب على طريق النضال مجددا ضد هؤلاء الظلمة واعوانهم من الذين جيء بهم من الاصقاع. تعود الذكريات مجددا لتستنهض الهمم وتحرك المشاعر، وتوقض الضمائر، بحثا عن القتلة و السفاحين، ورغبة في القصاص العادل من الذين مارسوا القتل بحق الابرياء. فالله سبحانه وتعالى يقول: “ان الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم”. لم يكن ذنب شهدائنا الا ان صدعوا بالحق ودعوا الى العدل والقسط، ولم يكونوا دعاة ضلال او فساد. وبدلا من ان يقدم هذا الطاغية اعتذارا للشهداء وذويهم، ها هو يستأسد مجددا بتصريحاته ضد المجاهدين الذين وقفوا ضد طغياته، ينعتهم بشر النعوت، ويزور حقائق التاريخ لتبرير جرائمه. فتبا وتعسا لخليفة بن سلمان ونظامه، وطوبى لأولئك الأحرار الذين كسروا القيود وصرخوا بوجهه منددين به وبظلمه ونظامه وارهابه. ونحن نستعد لاحياء ذكراهم العطرة، ترتفع الاصوات الخانعة التابعة للعائلة الخليفية المجرمة، لتزبد وترعد وتتوعد ضد من ينوي احياء هذه الذكرى الخالدة، او لتثني الشعب عن احياء المناسبة بسبب قربها من عيد السامري الذي يعتبره اهل البحرين ذكرى سوداء مشؤومة لانه اليوم الذي جثم أحد المحتلين على صدورهم وقضى عهدا من الظلم والاستضعاف والاذلال بلا وازع من ضمير ولا رادع من ايمان. كما ترتفع الاصوات من هنا وهناك، بنية حسنة تارة وخبيثة اخرى، لـ “تسوية المشكلة” وفق تصورات رموز هذا النظام العفن، على ان تؤدي هذه التسوية الى شراء مواقف الضحايا بأموال زهيدة منهوبة من دخلهم الوطني، في مقابل الموافقة على حماية الجلادين والمعذبين والقتلة. فما أبخسها من صفقة يراد تمريرها رغبة في “اعادة الثقة مع العائلة الحاكمة” بعيدا عن مقاييس الحق والعدل. لقد مارست العائلة الخليفية اجراما بشعا عندما أقدمت على اعدام الشهيد عيسى قمبر بتهم ملفقة، مدعية انها فعلت ذلك لتحقيق “القصاص”، برغم براءة الشهيد من التهم التي لفقها جهاز التعذيب الخليفي اليه آنذاك/ فلماذا لا يتم القصاص من الذين سفكوا دماء شبابنا وأزهقوا أرواح العشرات منهم ظلما وعدوانا؟ لماذا تقف العائلة الخليفية موقفا اجراميا بفرض القانون 56 برغم مخالفته الصريحة لمقتضيات معاهدة منع التعذيب التي وقعت عليها البحرين؟ تساؤلات كثيرة تثار ونحن نستقبل اليوم العالمي لحقوق الانسان (10 ديسمبر) حول جدوى الاجراءات الخليفية الاخيرة في مجال حقوق الانسان. ولطالما تمنينا ان لا ينبري أحد من أبناء الشعب للدفاع عن هذه العائلة نقف امام محراب الشهادة مجددا لنعيد قراءة سيرة اولئك الابطال الذين طهروا ارض اوال بدمائهم الزكية، ودقوا مسامير اضافية في نعيش النظام الخائر الذي سيتهاوى تحت فعل الدماء التي سفكها جلادوه، طال الزمن ام قصر. نعيش ذكريات فيها الكثير من المرارة والأمل: مرارة لغياب أبطالنا عن مسرح الحياة الدنيا، وان كانوا يعيشون في عالم الخلد مع الشهداء والصديقين، وأمل بان يطل فجر جديد على بلدنا وشعبنا بعد انقشاع الليل الأسود الملازم للوجود الخليفي المقيت. نستوحي من ذكراهم ملاحم البطولة والاقدام والتصدي للاستبداد والظلم والاحتلال، ونؤكد مبدأين جوهريين لا نحيد عنهما، اولهما ا ن قضية شعبنا مع النظام الخليفي ليست محصورة بالحقوق فحسب، بل تشمل حق الوجود ايضا، وثانيهما ان خلافنا مع العائلة الخليفية ليست حول الجوانب الفنية في ادارة الحكم وأداء الوزارات وبعض جوانب حقوق الناس، بل ان جوهر هذا الخلاف يتعلق بمسألة الحكم، متمثلا بالدستور الذي ينظم العلاقة بين أهل البحرين والعائلة الخليفية التي سنظل نتعتبرها محتلة ما لم تغير عقليتها تجاه الشعب. ولذلك قاطعنا النظام، ورفضنا ان نعمل من داخله، فرفض احرارنا تسجيل منظماتهم لديه، وقاطعنا انتخاباته ومجالسه الصورية، وأصررنا على استعادة الحقوق كاملة غير منقوصة، وابتعدنا عن اساليب المساومة المادية والاستجداء، ورفضنا الاعتراف بمملكة الشيخ حمد ودستوره وكافة اشكال نظامه، لان ذلك كله مفروض علينا بالقوة. ان ذكرى الشهداء الابرار، تعمق فينا مشاعر العزة والكرامة والاباء، وتمنعنا من ا لانحناء امام الطغاة او مصافحة القتلة والسفاحين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء السيء الذكر. ان دماء شهدائنا تمنع أبطال اوال من المساومة على الحقوق والاهداف التي استشهدوا من اجلها، وسوف يشاركون بعون الله في احياء ذكراهم بدون خشية من احد، فالله هو القوي وهو قاصم الجبارين. وسنظل على ذلك حتى يفتح الله بيننا وبين القوم الظالمين.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، يا رب العالمين.