لكي لا تنحرف البوصلة: مناسبتان وطنيتان ومقاومة باسلة ضد الاستبداد المتوارث
برغم التراجعات التي شهدتها حركة المعارضة في السنوات الاخيرة، والحفرة الكبيرة التي حفرتها العائلة الخليفية في طريقها الطويل بما أسمته “المشروع الاصلاحي”، تؤكد المؤشرات ان المعارضة قد نجحت، بفضل الله والوعي المختزن في وجدان المواطنين، في تخطي تلك الحفرة السحيقة. صحيح ان هناك من سقط فيها، ولكن جسد المعارضة استعاد قدرا جيدا من عافيته، بعد ان لملم جراحه وتمرد على محاولات القتل على ايدي النظام السفاح.
حركة المعارضة اليوم تجدد نفسها بشكل واعد، وتتحرك بخطى واثقة بنصر الله، ومشاركة الدماء الجديدة التي التحقت بها. فمقاومة الظلم مسؤولية اسلامية وانسانية، يحق لمن يمارسها ان يشعر بالفخر. وهل هناك من يشك في ان النظام الخليفي ظالم حتى النخاع؟ تتحرك قافلة المناضلين بقوة الدفع الذاتية التي تتضاعف قوتها مع الحركة، وتقاوم محاولات التخدير والتراجع التي يبثها نظام الاستبداد التوارثي البغيض، وينتمي لها نشطاء كانوا في أرحام امهاتهم قبل عقود، ففتح الله قلوبهم على حب الحرية والعداء للظلم، فهبوا للمقاومة، وشيدوا جدرانا صلبة بينهم وبين النظام الخليفي، ورفضوا الاقرار به او الاذعان له او مسايرته. عناصر المعارضة اليوم شابة تختزن من الطاقة الشيء الكثير، وهي قادرة، بعون الله، على أداء الواجب الوطني، بعيدا عن المهاترات التي يختلقها النظام وعملاؤه، في محاولاتهم لحرف مسيرة الشعب نحو الحرية ومقاومة الظلم.
الأمر الايجابي في هذه المسيرة قدرتها على التجديد، فما ان “يتقاعد” عنصر من نشطائها على الحركة (بسبب التعب او الكبر او الانحياز لجانب الظلم الخليفي) حتى يرفع اللواء عشرات آخرون، أشد باسا وايمانا بالقضية. بالامس رحل جاسم فخرو، ولحقه عبد الله فخرو، فلم تتوقف المسيرة. ثم سقط العمود الاكبر في خيمة المعارضة، وانتقل القائد الكبير، الشيخ عبد الامير الجمري، فما وهنت المعارضة وما استكانت. واليوم يرقد على سرير المرض الاستاذ المناضل، عبد الرحمن النعيمي، بعد ان اتعبته عقود الغربة، وأصابته في مقتل سهام النظام الخليفي الجائر، وتآمرت اولا لاقناعه بالمشاركة في نظام طالما رفضه، وهي المشاركة التي لم تؤد الا الى اهانته. مع ذلك سيبقى “أبو أمل” رمزا من رموز النضال الوطني وعنوانا من عناوين رفض الظلم والاستبداد. واليوم يتوقف الشيخ محمد علي العكري، الفارس الذي لم يترجل قط، لالتقاط الانفاس في استراحة مقاتل تعب جسده، وما تزال روحه مولعة بحب النضال والصمود. انه رجل تاريخي متميز بصفاء سريرته ونقاء بصيرته، وأخلاقه الرفيعة وتواضعه الذي لا يجاريه فيه أحد. فقد عاش مع المظلومين والمحرومين والمستضعفين، فلم يتخلف عن مسيرة او اعتصام، وأبى الا ان يكون شاهدا على ظلم القضاء الخليفي في محاكمات أبطال اوال. ولمن لا يعرف تاريخ هذا الرجل، فاننا نعتبره أول سجين سياسي من التيار الاسلامي في العصر الحديث، اذ اعتقل في نهاية شهر رمضان المبارك في 1979 لدى عودته من الجمهورية الاسلامية عن طريق الكويت. وبقي في ذلك السجن، تحت طائلة قانون امن الدولة خمسين شهرا. وهو أول سجين سياسي بحراني يحظى باهتمام نشطاء حقوق الانسان، اذ أفردت له صحيفة “التايمز” اللندنية في 11 يناير 1983، عمودا خاصا تطرقت فيه لاعتقاله بدون محاكمة منذ سبتمبر 1979. ندعو الله بالفرج العاجل له، ونناشد اهلنا وأبطالنا الدعاء له بالصحة والسلامة، فهو فارس قلت نظائره.
ان الاستخلاف سنة الهية، وكذلك سنة الاستبدال في حالة التقاعس عن النفرة من اجل الحق ومقاومة الباطل والظلم: “الا تنفروا يعذبكم عذابا شديدا، ويستخلف قوما غيركم، ولا تضروه شيئا”. والشرف كله لمن صمد على طريق المقاومة والجهاد ضد الظالمين، حتى الرمق الأخير، ولم يتراجع او يضعف او يستسلم. وفي هذا الشهر مناسبتنان وطنيتان مهمتان، تؤكدان دور نضال شعب البحرين في مقاومة الاستعمار والظلم وتتطلبان اهتماما خاصا من اجل قراءة واعية للتاريخ الحديث، وازالة التشويش الذي يمارسه مشروع التخريب الخليفي الذي فرضه الشيخ حمد على البلاد. اولاهما ذكرى الاستقلال في منتصفه، وهو اليوم الذي اكتمل فيه سحب القوات البريطانية من البلاد (15 أغسطس 1971) وتحددت فيه معالم المرحلة الجديدة. اهمية تلك المناسبة انها أسست للمرة الاولى لطبيعة العلاقة بين أهل البحرين والعائلة الخليفية، وهي العلاقة التي نظمها دستور 1973 التوافقي، الوثيقة الوحيدة التي توفر شرعية للحكم الخليفي في مقابل شراكة سياسية كاملة على اساس التساوي مع اهل البحرين. انها الوثيقة التي ألغاها الشيخ حمد في 2002 واستبدلها بوثيقة الاستعباد التي تحكم البلاد والعباد اليوم، والتي لن يقرها شعب البحرين الحر الأبي أبدا. اما المناسبة الثانية فهي الذكرى المشؤومة لما حدث في 26 أغسطس 1975، عندما قرر الطاغية، خليفة بن سلمان آل خليفة، مدعوما بجهاز الامن الذي أسسه الضابط البريطاني البغيض، ايان هندرسون، الغاء الممارسة الديمقراطية الحديثة العهد، وتعليق العمل بالمواد الدستورية التي تنظمها. كان ذلك الانقلاب الذي دبره الطاغية مدخلا للحقبة السوداء التي استمرت 25 عاما، والتي سقط فيها ابناء البحرين شهداء على طريق المقاومة المشروعة ضد الاحتلال والاستبداد الخليفيين.
مناسبتان يسعى النظام الخليفي لمحوهما من التاريخ السياسي لهذا الشعب وهذه الارض. فما يزال نظام الاستبداد الخليفي يرفض اعتبار يوم الانسحاب البريطاني “عيدا وطنيا” كما هو معتاد في دول الخليج الاخرى التي انسحب البريطانيون منها في ذلك العام، ويصر على اعتبار يوم تنصيب الحاكم الراحل، عيسى بن سلمان، في 16 ديسمبر 1961 هو العيد الوطني. فحري بالمواطنين الاصرار على استذكار يوم الانسحاب البريطاني، واعتباره مناسبة للتذكير بان الشعب الذي ناضل ضد الاستعمار عقودا، حتى اضطره للانسحاب، قادر على هزيمة عقلية الاحتلال والاستبداد والظلم. اما ذكرى الغاء الديمقراطية على يدي الطاغية، خليفة بن سلمان، فتتضمن تخلي العائلة الخليفية عن بنود الاتفاقية الوحيدة التي توفر شرعية الحكم لها. واذا اضيف لها ما قام به الشيخ حمد في 2002 لاكمال الجريمة التي ارتكبها عمه قبل 27 عاما، اتضحت حقيقة هذا الحكم الاجرامي الذي ينقض العهود ولا يفي بالوعود، ولا يمتلك شرعية الحكم، لان الشرعية تقتضي توفر موافقة الشعب، وهي غير متوفرة. وعليه فنضال اهل البحرين سوف يتواصل بعون الله ضد عقلية الاحتلال والاستبداد، وستكون هذه المناسبات محطات لتجديد دماء المقاومة والعمل الوطني لاقامة نظام عصري يقوم على اسس العدل والتشاور والوفاق الوطني بعيدا عن قيم البداوة والقبلية والمذهبية والعنصرية.
اللهم ارحم شهداءنا الابرار، واجعل لهم قدم صدق عندك.