استغاثة من اجل معرفة الحق ومقارعة الظلم والفساد
حسنا فعل المواطنون عندما أعربوا بمقاومتهم السلمية عن رفضهم القاطع لتكريم رأس الاجرام في البلاد، مهندس الحقبة السوداء والمسؤول عن قتل العشرات من ابناء البحرين واعتقال عشرات الآلاف وتشريد المئات منهم. فما قرأناه على جدران المالكية وكرزكان وبقية المناطق تعبير واضح عن نفس تواقة للحرية، راغبة في الاستقلال، مصرة على مواجهة الطغاة. لقد أثبت هؤلاء المواطنون انهم أوعى من بعض القيادات التي “تجامل” طاغية البحرين، على حساب دماء الشهداء، وتسوق ذلك بانه “حنكة سياسية”. فماذا حقق هذا التذاكي خلال السنوات السبع العجاف الاخيرة سوى تقوية النظام وشرعنة ممارساته القمعية وحربه ضد الشعب، وسياسة الابادة الثقافية لسكان هذا البلد المبتلى؟
وأين هي قيم الدين من سياسة مسايرة الظالمين؟ ان المسايرة طريق يؤدي الى ذوبان الهوية، والصمت على الجرائم، وكلما اوغل الانسان في هذه المسايرة أصبح أقل اعتراضا على الباطل، وأقرب الى تحمله والتعايش معه. واذا لم يتم التوقف عن هذه السياسة فسوف يصل الحال الى ما و صل اليه بعض “الايمانيين” الذين راحوا يطلقون خلال زياراتهم “البرلمانية” في الخارج التصريحات التي توحي بان انظمة البحرين وقوانينها “منسجمة مع المعايير الدولية“. دماء الشهداء تقول بان الطغمة الحاكمة في البحرين جائرة وظالمة ومستبدة وسارقة وعميلة وساقطة. ولكن من ارتضى سياسة المسايرة أصبح يقترب تدريجيا بعقله وفكره واحاسيسه مما يريده الاحتلال الخليفي البغيض. فتبا لهذا اليوم الذي نعيش فيه أسوأ أيامنا وأكثرها حلكة وظلمة. ولولا هذه النوافذ الجميلة التي نطل من خلالها على عمق روح الرفض الشعبي للظلم والجور الخليفيين (من خلال الشعارات الحائطية، والاعتصامات الشارعية، والكتابات الانترنتية) لفقدنا الآمل بامكان التغيير، ولاعتقد الكثيرون ان الامر استتب للطغيان والظلم، وان الايمان وجنوده يفرون من الزحف.
نعيش مجددا وضعا يذكرنا بالايام الخالية عندما كانت الدعاية ضد الدين في اوجها، مدعية بان الدين افيون الشعوب، ومستدلة على ذلك بسيرة بعض رموزه آنذاك، التي سايرت الظالمين ووقفت ضد مواقف المظلومين ومشاعرهم. حتى جاءت الصحوة الاسلامية المباركة لتؤكد للعالم ان الاسلام هو دين التحرر من الاستعباد، وان لديه منظومة واضحة في الحكم والادارة، وانه لا يقر الاستبداد، ويحارب توارث الحكم، ويعتبر ذلك انحرافا عن المشروع الاسلامي وبدعة في تاريخ الاسلام بدأها الامويون. وبعد ثلاثة عقود على هذه الصحوة نشاهد نجاحات لها وضدها. فقد نجحت في تحريك الامة باتجاه التحرر من الاستعباد وانظمة الظلم، والسعي لاستعادة الهوية. نجحت في تحويل الاسلام الى تيار نهضوي وتعبوي، يسعى لتحقيق استقلال الامة في وجودها وقرارها وصياغة اولوياتها، وتحقيق قدر من الوحدة في ما بين مكوناتها. ولكننا اليوم نشاهد ظاهرتين متوازيتين في اوساط النشطاء الاسلاميين: التطرف الذي يثير الشكوك حول المشروع الاسلامي، ويستعدي العالم ضد امة المسلمين، والتخلي عن الجانب السياسي في المشروع الاسلامي، وذلك بمسايرة انظمة الحكم الجائرة، وغض الطرف عن جرائمها، والدعوة العملية لفصل الدين عن السياسة. واذا كان التطرف امرا ممقوتا ومرفوضا، فان “العلمانية الدينية” لا تقل خطرا. وها نحن نشاهد مصاديق واضحة لها خصوصا في البحرين. فلم يعد “الايمانيون” ملتزمين بالمشروع السياسي الاسلامي، بل أصبحوا ابواقا للنظام بذرائع شتى. واصبحت هناك ظواهر تبعث على القلق والاسى. فما معنى التعايش مع الظلم والطغيان والاستبداد؟ وما معنى منع طرح قضايا الناس السياسية كشعارات في المواكب العزائية وفي المساجد والحسينيات؟ لقد عشنا مرحلة صعود الموكب الحسيني الحديث الذي استمر اكثر من عشرين عاما، يقلق الحكم بقصائد الرواديد الحماسية الرافضة للظلم والاستبداد، ولكن سرعان ما انقلب الوضع، فأصبح هذا الموكب الحسيني يتخذ منحى آخر، واذا بنا نسمع من يتساءل: هل يجوز رفع الشعارات السياسية في المواكب العزائية؟ وازداد الوضع سوءا عندما طرح البعض ان الامام الحسين عليه السلام لم يثر ضد يزيد وانما استدرج للمواجهة ولم يكن راغبا فيها. ويزيد على ذلك بان الائمة عليهم السلام لم يواجهوا الحكام، بل تعايشوا معهم. يتم هذا الطرح لتفريغ المشروع الاسلامي من محتواه، ومن اجل اضفاء الشرعية على مسايرة الظالمين والطغاة. انها ردة على المباديء التي طرحها الاسلام وأكد عليها رواد المشروع الاسلامي المعاصر، وانقلاب على ما كان يعتبر من ثوابت العمل الاسلامي بصيغته المعاصرة. ويجدر بالعلماء والمفكرين الواعين دحض هذه الافكار، واظهار ان توجيه الشعائر الدينية وفق قيم دينية غير مرتبطة بهموم المسلمين، انما هو جزء من المشروع اليزيدي الذي يسعى للهيمنة السياسية بابعاد الدين عن السياسة.
ان شعبنا يواجه اليوم تحديات على مسارات شتى. فهو يواجه تحديا سياسيا يتمثل بالهيمنة المطلقة للعائلة الخليفية على شؤون البلاد، وتأميم كافة شؤون الناس المدنية والسياسية والدينية من خلال “المجالس العليا” تارة و “الجمعيات” تارة اخرى، و “مجلس الشورى” بشقيه المعين والمنتخب. ويواجه تحديا حول الثقافة والتاريخ، اذ تصر العائلة الخليفية على تعليم النشء بان تاريخ البلاد لم يبدأ الا في 1783 عندما احتلت العائلة الخليفية بلادنا. وهو يواجه تحديا في الهوية، اذ اصبح هناك تساؤل خطير: من هو البحراني؟ فمن يعارض الاحتلال الخليفي تنتفي بحرانيته ويتم التشكيك في هويته وولائه، ومن يوالي الحكم ويستسلم لارادته يحظى بالعطاء والمناصب. ويواجه تحديا دينيا، اذ يطلب منه التخلي عما كان يعتبره من ثوابت حول مقارعة الظلم ورفضه ومقاومته بكافة السبل المتاحة، ويواجه تحديا فكريا اذ يطلب منه الاعتقاد بحصر الدين في العبادة وابعاده عن شؤون الحياة، ويواجه تحديا في الانتماء الحركي، اذ يطالب بان يفصل الدين عن السياسة عمليا، فيصمت في المسجد والموكب الحسيني، ويترك السياسة للمتسلقين والمتملقين، ويواجه تحديا اخلاقيا اذ يطلب منه السكوت على ما يراه من ممارسات يتجلى فيها الفساد المالي باوضح صورة، اذ يقرر الحاكم الجائر مستويات العطاء، فمن يسايره يحظى بالمخصصات والرواتب العالية، ومن يعارضه يحارب في رزقه ووظيفته وسكنه.
اننا نعيش واحدة من احلك ايام حياتنا، ممتحنين في ديننا واخلاقنا وانتمائنا وقيمنا وتاريخنا وثقافتنا. نبحث عمن يقود المسيرة على طريق الاسلام المحمدي، والايمان الحسيني. ونتمنى على اهل العلم وذوي العقول والسيرة الحسنة واصحاب الضمائر الحية بان يكونوا مصداقا للآية الكريمة “واجعلنا للمتقين اماما”، فيقتحموا ساحات النزال ضد الظلم والطغيان والاستبداد والفساد، بدون ان تأخذهم في الحق لومة لائم، وبدون ان يوفروا للحاكم الظالم ما يريد من استقرار وامن يقوي شوكته ويدعم جبروته. ندعو الله ان يرينا الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا، فنجتنبه، ولا يجعله متشابها علينا، فنتبع اهواء انفسنا بدون هدى منه.
اللهم ارحم شهداءنا الابرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وتقبل قرابيننا يا رب العالمين