الشهيد حسين بركات: عنوان شعب وقصة أمّة
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون.
شهيد آخر يلتحق بقافلة ضحايا القمع والتعذيب والإهمال والحقد القبلي المقيت. ففي غضون 48 ساعة من تداعي حالته الصحية نتيجة اصابته بفيروس كورونا، صعدت روح المجاهد حسين بركات الى ربها شاكية ظلم الخليفيين وإجرامهم وخيانتهم. فأي جسد لا تتداعى قوته نتيجة الغضب الصامت المختزن في نفوس البحرانيين. وأية روح كبيرة يستطيع جسد انهكته العلل والظلم والتعذيب حملها؟ وأي قلب، مهما كان كبيرا، يستطيع الاحتفاظ بنبضه ما دامت كرامة الأمة يسحقها أشباه الرجال في زمن رديء ابتليت به أمتنا بلا حدود؟ لم يكن الشهيد بركات على موعد مع الموت، وان كان قد جهز نفسه لتحمل المصائب والمشقات، وأعد روحه للارتفاع الى عالم الملكوت المغمور بالنقاء والصفاء والإيمان والخلود. كان هذا المواطن البحراني البطل شاهدا على ظلم الطغمة التي ولغت في الدماء وغاصت حتى أخمص قدميها في العمالة حتى بلغت أشنع مستويات الخيانة والعار. كان حسين بركات شاهدا وشهيدا على إهانة أمة واستهداف شعب وقتل جيل. عاش حياته على الخطوط الامامية في المعركة الأزلية بين الحق والباطل، والصراع المحتدم منذ عقود بين الشعب البحراني العملاق والطغمة الخليفية التافهة التي وجدت ضالتها، بعد عقود من احتلال الارض واضطهاد الشعب، في أرض أخرى محتلة وحثالات أخرى استقدمت من اصقاع الارض لنهب أرض غيرهم.
رأى الشهيد حسين بركات قوافل الشهداء تسبقه الى الجنة، ومجموعات الأحرار تنفى من الأرض، وطواقم العلماء تنفى في أقاصي الارض. لم يرض الشهيد بركات لنفسه ان يعيش بلا هدف او انتماء. لم يقبل بان يقف مراقبا من قمم التلال متفرجا على سحق كرامة شعبه، صامتا أمام أبواق الدجل والنفاق التي تروّج المنكر وتبرر الخيانة وتزيّن العمالة، وتقلل من شأن شرف النضال وكرامة الموقف وإنسانية التوجه. كان بركات هناك في المعارك التي شهدتها البلاد منذ نهضة شعبها في اكبر ثورة في تاريخه، يراقب الوضع عن كثب، ليس من على قمم التلال بل على قارعة الطريق الذي ارتضاه لنفسه، يقطعه شبرا شبرا، يشم ترابه الذي تطأه أقدام المجاهدين والشرفاء والأبطال والشهداء، ويسعى لتطهير ما دنسته أقدام الغزاة والعملاء. كان، كغيره من البحرانيين، يتفجر غيظا عندما يسمع أباطيل المرجفين وكلام المدّاحين من لاحسي القصاع ومساحي الاحذية وشراذمة التاريخ الذين سمحوا لانفسهم ان يكونوا مطايا للطغاة ومركبا لأعداء الانسانية. لم يكن حسين بركات وهو الذي شهد جرائم الخليفيين منذ اليوم الاول لانطلاق ثورة الشعب المظفرة مستعدا لان يعيش على هامش الحياة او يكتفي بالمراقبة عن بعد، او يتحول الى قطعة طوب يستخدمها الطغاة لبناء أمجاد وهمية يؤسسونها على جثث الأحرار ودماء الشهداء.
كان بركات صنفا آخر من البشر، رأى في من سبقه من الشهداء مُثُلا عليا تستهويه فيسعى للحاق بها. رأى في على عبد الهادي مشيمع أول مصدر نضح جسده بالعطاء عندما استقبل أولى طلقات الحقد الخليفي في اليوم الأول لانطلاق ثورة الوطن المظفرة. ومسح على أعضاء كريم فخراوي التي قطّعها جلادو الخليفيين. ولملم هامة أحمد فرحان المفضوخة نتيجة العدوان السعودي – الإماراتي ليقدمها ثمنا لحرية شعب ونهضة أمة. سار على طريق من سبقه من عظماء الوطن راضيا بقضاء الله، منتظرا قدره، راغبا في لقاء ربه بدون خوف او تردد او تراجع. حكمه الطغاة بالسجن مدى العمر فقال لنفسه: ما عساني ان أعيش؟ وما قيمة العيش بلا كرامة او هوية او طعم؟ قال لنفسه: ان العيش بلا هوية انما هو من شيم البهائم التي ينحصر همها في ملء كرشتها بالعلف، فقررت ان تعيش لتأكل فحسب. ومنذ اعتقاله في 2018 ادرك حسين بركات ان الشهيد يحيا بعد موته، وان من يقبل بدنيا وضيعة يعيش ميتا، وان الحياة انما تقاس بمقدار ما يقدمه المجاهد من فكره وعطائه ما يبقى مثلا للمجاهدين، كما قال الشهيد السيد محمد باقر الصدر.
ما أطول الطريق الى العناء، وما أقصر الدرب الى الراحة والخلود. ما أشد عذاب من يحيا بلا هوية أو طعم او هدف، وما أعظم كرامة من يستبدل العيش الوضيع بنهاية مشرفة تأخذه الى مستقر رحمة الله فيلتحق بالشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. الذين اختاروا طريق الشهادة أصبحوا كبارا في حياتهم وبعد استشهادهم. كان حسين بركات واحدا من هؤلاء العظماء الذين تجاوزوا حواجز الخوف وأصبح شوقهم للقاء الله دافعا لهم لأداء المسؤولية وحمل الأمانة وتحدي الطغاة. وهل هناك نهاية أشرف من استنكار الظلم والرد على الظالم؟ قال رسول الله (ص): سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله. وها هو شهيدنا العظيم يرتقي الى ربه من سجنه، فتعرج روحه الى بارئها مستبشرة بالنصر: ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، ألّا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فمنذ اعتقاله، حسم حسين بركات خياره، فأصبح واحدا من رجال الله المجاهدين الذين لا يسكتون على الظلم ولا يتعايشون مع الطغاة. لقد أصبحت الزنزانة الضيقة وطنه المفضّل: قال ربّ السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه. في زمن يساوم الخليفيون البحرانيين فيه على الاستسلام او التعرض للتنكيل، وجد الشهيد ضالته في شخص سيد الشهداء الذي قال: ألا وان الدعيّ بن الدعي قد ركز بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك والمؤمنون. ثقافة الشهادة هذه تراث احتضنه شباب البحرين الأبيّ وتحدّى به الطغاة الذين ما برحوا يحكمونه بالنار والحديد.
هناك في زاوية من السجن، كان حسين بركات يتعبّد لربه وتختلج شفتاه بالصلاة من اجل الإسلام والوطن والشعب. وعلى مدى السنوات الثلاث التي قضاها وراء القضبان منذ اعتقاله في العام 2018 كانت صور فلذات كبده وزوجته لا تفارقه، يقرأ في وجوههم ملامح العزة والكرامة، ويعلم انهم أبناء شعب لا يلين ولا يهين ولا يستسلم للطغيان والاستبداد والاحتلال. كان، كغيره، يعلم ان الطغاة الخليفيين أضافوا الجائحة الى ترسانة أسلحتهم التي يستخدمونها بشكل متواصل ضد الشعب، وأنهم سيستخدمون هذا السلاح بتوحش وسادية ضد الأحرار المرتهنين في سجونهم. بقي متوكلا على الله، مصليا وقارئا للقرآن حتى فتكت الجائحة به ولم تمهله طويلا. ارتفعت الاصوات مطالبة بإخراجه من السجن مع بقية الأسرى البحرنيين، ولكن الطاغية الذي امتلأ قلبه حقدا وغيظا رفض ذلك، فلم يمكث سوى يومين حتى عرجت روحه الى السماء.
في زمن الهوان والاستسلام، بقي حسين بركات شامخا بهامته حتى النهاية. فجعت عائلته برحيله المبكر، ولكن رفع أبناؤه رؤوسهم عالية، وهم يرثون من والدهم الشهيد قيم الجهاد والصمود والتحدي ورفض الاحتلال والاستبداد والطغيان. من منزل الشهيد، هتفت الزوجة وأبناؤها بالحق وأعلنوا ظلامتهم للعالم، وسجّلوا شهادتهم للتاريخ. لقد استجاب الشعب لهم، وخرجت جحافله البطلة مؤبّنة الشهيد في موكب رمزي عملاق اخترق شوارع “الديه” بهتافات تؤكد صمود الوطن والشعب واستمرار الثورة على الظلم والطغيان، وأرواح مرتبطة بالسماء تستمد منها العون والنصر. فلا مكان في ذاكرة الوطن للاستسلام او اليأس او التراجع، فهذه الذاكرة تتوسع باستمرار كلما أضيف لها شهيد جديد قتله الخليفيون، وتنطق بالصلاة قائلة: اللهم تقبل منا هذا القربان. ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أطول الليل الخليفي الأسود، وما أشد وقع الظلم على الوطن والشعب. لكن هذا الظلم اصبح الوقود الذي يشعل الثورة في نفوس الاحرار ويكشف أقنعة المنافقين والخائنين والمرجفين وعبدة الشيطان. في أرض أوال يقطن شعب أبى الاستكانة للظلم ورفض ان يقر الاحتلال والاستبداد، وآمن بالنصر الذي وعده الله لعباده الصالحين الثابتين الصابرين. هذا الوعد لن يتأخر طويلا وعما قريب سيسقط الظلم والطغيان والاستبداد والاحتلال والخيانة، وسينتصر الشعب على أعداء الله والحرية والانسانية والوطن.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفك قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة احرار البحرين الاسلامية
11 يونيو 2021